الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم تزعم أنك تجمع المال من الحلال ! ويحك أين ! الحلال فتجمعه .

؟! وبعد ، فلو كان الحلال موجودا لديك أما تخاف أن يتغير عند الغنى قلبك ؟! وقد بلغنا أن بعض الصحابة كان يرث المال الحلال فيتركه ؛ مخافة أن يفسد قلبه أفتطمع أن يكون قلبك أتقى من قلوب الصحابة فلا يزول عن شيء من الحق في أمرك وأحوالك ؟! لئن ظننت ذلك لقد أحسنت الظن بنفسك الأمارة بالسوء ويحك ! إني لك ناصح ، أرى لك أن تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر ولا تتعرض للحساب ؛ فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من نوقش الحساب عذب وقال عليه السلام: : « يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالا من حرام ، وأنفقه في حرام ، فيقال : اذهبوا به إلى النار ، ويؤتى برجل قد جمع مالا من حلال وأنفقه في حرام، فيقال: اذهبوا به إلى النار، فيؤتى برجل قد جمع مالا من حلال وأنفقه في حلال، فيقال له: قف؛ لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها، وفرطت في شيء من ركوعها وسجودها ووضوئها، فيقول: لا يا رب، كسبت من حلال وأنفقت في حلال، ولم أضيع شيئا مما فرضت علي، فيقال: لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب، أو ثوب باهيت به، فيقول: لا يا رب لم أختل، ولم أباه في شيء، فيقال: لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فيقول: لا يا رب، كسبت من حلال، وأنفقت في حلال، ولم أضيع شيئا مما فرضت علي، ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن أعطيه، قال: فيجيء أولئك فيخاصمونه، فيقولون: يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا، وأمرته أن يعطينا، فإن كان أعطاهم وما ضيع مع ذلك شيئا من الفرائض، ولم يختل في شيء، فيقال: قف الآن هات شكر كل نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لقمة أو لذة، فلا يزال يسأل ويحك ! فمن ذا الذي يتعرض لهذه المسألة التي كانت لهذا الرجل ، الذي تقلب في الحلال ، وقام بالحقوق كلها ، وأدى الفرائض بحدودها ، حوسب هذه المحاسبة ؟! فكيف ترى يكون حال أمثالنا الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها وشبهاتها وشهواتها وزينتها ؟! ويحك ! لأجل هذه المسائل يخاف المتقون أن يتلبسوا بالدنيا فرضوا بالكفاف منها ، وعملوا بأنواع البر من كسب المال ، فلك ويحك ! بهؤلاء الأخيار أسوة ، فإن أبيت ذلك وزعمت أنك بالغ من الورع والتقوى ، ولم تجمع المال إلا من حلال بزعمك للتعفف والبذل في سبيل الله ، ولم تنفق شيئا من الحلال إلا بحق ، ولم يتغير بسبب المال قلبك عما يحب الله ولم تسخط الله في شيء من سرائرك وعلانيتك ، ويحك ! فإن كنت كذلك ولست كذلك فقد ينبغي لك أن ترضى بالبلغة وتعتزل ذوي الأموال إذا وقفوا للسؤال وتستبق ، مع الرعيل الأول في زمرة المصطفى لا حبس عليك للمسألة والحساب ، فإما سلامة وإما عطب .

فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم الجنة بخمسمائة عام وقال عليه السلام : يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيتمتعون ويأكلون، والآخرون جثاة على ركبهم، فيقول: قبلكم طلبتي، أنتم حكام الناس وملوكهم، فأروني ماذا صنعتم فيما أعطيتكم؟!

.

التالي السابق


(ثم تزعم أنك تجمع المال من الحلال! ويحك! وأين الحلال فتجمعه؟! وبعد، فلو كان الحلال موجودا لديك أما تخاف أن يتغير عند الغنى قلبك؟!) عما كان عليه من الإقبال على المعرفة (وقد بلغنا أن بعض الصحابة كان يرث المال الحلال فيتركه؛ مخافة أن يفسد قلبه) رواه صاحب القوت، عن الحسن قال: كان أحدهم يعرض له المال الحلال فيقول: لا حاجة لي به، أخاف أن يفسد علي قلبي" .

(أفتطمع أن يكون قلبك أتقى من قلوب الصحابة فلا تزول عن شيء من الحق في أمرك وأحوالك؟!) هذا لا يكون، و (لئن طننت ذلك لقد أحسنت الظن بنفسك الأمارة بالسوء) وتبرآتها (ويحك! إني لك ناصح، أرى لك أن تقتنع بالبلغة) من العيش (ولا تجمع المال لأعمال البر) فتركك له آثر (ولا تتعرض للحساب؛ فإنه بلغنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من نوقش الحساب عذب) متفق عليه من حديث عائشة، وقد تقدم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالا من حرام، وأنفقه في حرام، فيقال: اذهبوا به إلى النار، ويؤتى برجل) آخر (قد جمع مالا من حلال وأنفقه في حرام، فيقال: اذهبوا به إلى النار، فيؤتى برجل) آخر (قد جمع مالا من حلال وأنفقه في حلال، فيقال له: قف؛ لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها، وفرطت في شيء من ركوعها وسجودها ووضوئها، فيقول: لا يا رب، كسبت من حلال وأنفقت في حلال، ولم أضيع شيئا مما فرضت علي، فيقال: لعلك اختلت في هذا المال) من الاختيال وهو التكبر (في شيء من مركب، أو ثوب باهيت به، فيقول: لا يا رب لم أختل، ولم أباه في شيء، فيقال: لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فيقول: لا يا رب، كسبت من حلال، وأنفقت في حلال، ولم أضيع شيئا مما فرضت علي، ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن أعطيه، قال: فيجيء أولئك فيخاصمونه، فيقولون: يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا، وأمرته أن يعطينا، فإن كان أعطاهم وما ضيع مع ذلك شيئا من الفرائض، ولم يختل في شيء، فيقال: قف الآن هات شكر كل نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لقمة أو لذة، فلا يزال يسأل) قال العراقي: الحديث بطوله لم أقف له على أصل .

(ويحك! فمن ذا الذي يتعرض لهذه المساءلة التي كانت لهذا الرجل، الذي تقلب في الحلال، وقام [ ص: 222 ] بالحقوق كلها، وأدى الفرائض بحدودها، حوسب هذه المحاسبة؟! فكيف ترى يكون حال أمثالنا الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها وشبهاتها وشهواتها وزينتها؟! ويحك! لأجل هذه المساءلة يخاف المتقون أن يتلبسوا بالدنيا) ويطمئنوا إليها (فرضوا بالكفاف منها، وعملوا بأنواع البر من كسب المال، فلك -ويحك!- بهؤلاء الأخيار أسوة، فإن أبيت ذلك وزعمت أنك بالغ في الورع والتقوى، ولم تجمع المال إلا من حلال بزعمك للتعفف والبذل في سبيل الله، ولم تنفق شيئا من الحلال إلا بحق، ولم يتغير بسبب المال قلبك عما يحب الله) ويرضاه (ولم تسخط الله في شيء من سرائرك وعلانيتك، ويحك! فإن كنت كذلك -ولست كذلك- فقد ينبغي لك أن ترضى بالبلغة) من العيش (وتعتزل ذوي الأموال إذا وقفوا للسؤال، وتستبق مع الرعيل الأول) والرعيل طائفة من الجيش (في زمرة المصطفى) صلى الله عليه وسلم (لا حبس عليك) ولا وقوف (للمساءلة في الحساب، فإما سلامة وإما عطب) أي: هلك (فإنه بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يدخل صعاليك المهاجرين) أي: فقراؤهم (قبل أغنيائهم الجنة بخمسمائة عام") قال العراقي: رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه من حديث أبي سعيد، بلفظ: "فقراء" مكان "صعاليك" ولهما وللنسائي في الكبرى من حديث أبي هريرة: "يدخل الفقراء الجنة" الحديث، ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين خريفا" انتهى .

قلت: حديث أبي هريرة لفظه: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو خمسمائة عام" هكذا رواه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وهو في الحلية بلفظ: "بيوم كان مقداره ألف عام" وقال: "المؤمنين" بدل "المسلمين" وفي رواية له: "يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام".

وروى الحكيم من حديث سعيد بن عامر بن جذيم: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، حتى إن الرجل من الأغنياء ليدخل في غمارتهم فيؤخذ بيده فيستخرج".

ورواه الطبراني في الكبير بلفظ: "إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الناس بسبعين عاما".

وروى الديلمي من حديث أبي برزة: "إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بمقدار أربعين عاما، حتى يتمنى أغنياء المسلمين يوم القيامة أنهم كانوا فقراء في الدنيا، وإن أغنياء الكفار ليدخلون النار قبل فقرائهم بمقدار أربعين عاما، حتى يتمنى أغنياء الكفار أنهم كانوا في الدنيا فقراء" وفي سنده نفيع بن الحارث، وهو متروك .

وفي الباب عن جابر، وابن عمر، وأبي الدرداء، ولفظهم جميعا: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفا" فحديث جابر عند أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي. وحديث ابن عمر وأبي الدرداء عند الطبراني في الكبير .

وروى أحمد عن رجال من الصحابة بلفظ: "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بأربعمائة عام" الحديث .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيتمتعون ويأكلون والآخرون جثاة على ركبهم، فيقول: قبلكم طلبتي، أنتم حكام الناس وملوكهم، فأروني ماذا صنعتم فيما أعطيتكم؟!) قال العراقي: لم أر له أصلا .

قلت: روى أبو سعيد النقاش في كتاب القضاة من طريق عبدة بن عبد الرحمن المروزي، عن بقية، حدثنا سلمة بن كلثوم، عن أنس، رفعه: "يؤتى بالحكام يوم القيامة فمن قضى وتعدى، فيقول: أنتم خزان أرضي، ورعاء عبيدي، وفيكم بغيتي" فساق الحديث، وفيه: فيقول: "انطلقوا بهم فسدوا بهم ركنا من أركان جهنم" وعبدة قال أبو داود: لا أحدث عنه، وسلمة شامي ثقة، وبقية روايته عن الشاميين مقبولة، وقد صرح في هذا الحديث بالتحديث .




الخدمات العلمية