فإذا :
nindex.php?page=treesubj&link=18703شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر ، ومهما أدرك من نفسه تفرقة بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء ، فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا ، فلو كان مخلصا قانعا بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم ، وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق ، ولا أجل ، ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب ، كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين . فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي ولكن ليس ، كل شوب محبطا للأجر ، مفسدا للعمل ، بل فيه تفصيل .
فإن قلت : فما نرى أحدا ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته ، فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم ؟ فنقول :
أولا كل سرور فليس بمذموم ، بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم .
فأما المحمود فأربعة أقسام :
الأول : أن يكون قصده إخفاء الطاعة ، والإخلاص لله ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله فيستدل به على حسن صنع الله به ، ونظره إليه وألطافه ، به ، فإنه يستر الطاعة والمعصية ، ثم الله يستر عليه المعصية ، ويظهر الطاعة ولا ، لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر الله له لا بحمد الناس ، وقيام المنزلة في قلوبهم ، وقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=58قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ، ففرح به .
الثاني : أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة ؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=912112ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة .
فيكون الأول فرحا بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل ، وهذا التفات إلى المستقبل .
الثالث : أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف ، بذلك أجره ، فيكون له أجر العلانية بما أظهر آخرا وأجر السر بما قصده أولا ، ومن اقتدى به في طاعة فله مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيء وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور ، فإن ظهور مخايل الربح لذيذ ، وموجب للسرور ، لا محالة .
الرابع : أن يحمده المطلعون على طاعته ، فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم ، وبحبهم للمطيع ، وبميل قلوبهم إلى الطاعة إذ من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته ويحسده أو يذمه ويهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ، ولا يحمده عليه ! فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله .
وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمدهم غيره مثل فرحه بحمدهم إياه .
وأما المذموم وهو الخامس فهو ، أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس ؛ حتى يمدحوه ويعظموه ، ويقوموا بقضاء حوائجه ويقابلوه ، بالإكرام في مصادره وموارده فهذا مكروه والله تعالى أعلم .
فَإِذًا :
nindex.php?page=treesubj&link=18703شَوَائِبُ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ كَثِيرَةٌ لَا تَنْحَصِرُ ، وَمَهْمَا أَدْرَكَ مِنْ نَفْسِهِ تَفْرِقَةً بَيْنَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى عِبَادَتِهِ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ فَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنَ الرِّيَاءِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَطَعَ طَمَعَهُ عَنِ الْبَهَائِمِ لَمْ يُبَالِ حَضَرَهُ الْبَهَائِمُ أَوِ الصِّبْيَانُ الرُّضَّعُ أَمْ غَابُوا اطَّلَعُوا عَلَى حَرَكَتِهِ أَمْ لَمْ يَطَّلِعُوا ، فَلَوْ كَانَ مُخْلِصًا قَانِعًا بِعِلْمِ اللَّهِ لَاسْتَحْقَرَ عُقَلَاءَ الْعُبَّادِ كَمَا اسْتَحْقَرَ صِبْيَانَهُمْ وَمَجَانِينَهُمْ ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ لَا يَقْدِرُونَ لَهُ عَلَى رِزْقٍ ، وَلَا أَجَلٍ ، وَلَا زِيَادَةِ ثَوَابٍ وَنُقْصَانِ عِقَابٍ ، كَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَهَائِمُ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ . فَإِذَا لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فَفِيهِ شَوْبُ خَفِيٍّ وَلَكِنْ لَيْسَ ، كُلُّ شَوْبٍ مُحْبِطًا لِلْأَجْرِ ، مُفْسِدًا لِلْعَمَلِ ، بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ .
فَإِنْ قُلْتَ : فَمَا نَرَى أَحَدًا يَنْفَكُّ عَنِ السُّرُورِ إِذَا عُرِفَتْ طَاعَاتُهُ ، فَالسُّرُورُ مَذْمُومٌ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَحْمُودٌ وَبَعْضُهُ مَذْمُومٌ ؟ فَنَقُولُ :
أَوَّلًا كُلُّ سُرُورٍ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ ، بَلِ السُّرُورُ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَحْمُودٍ وَإِلَى مَذْمُومٍ .
فَأَمَّا الْمَحْمُودُ فَأَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إِخْفَاءَ الطَّاعَةِ ، وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَلَكِنْ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُمْ وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ مِنْ أَحْوَالِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ بِهِ ، وَنَظَرِهِ إِلَيْهِ وَأَلْطَافِهِ ، بِهِ ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُ الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ ، ثُمَّ اللَّهُ يَسْتُرُ عَلَيْهِ الْمَعْصِيَةَ ، وَيُظْهِرُ الطَّاعَةَ وَلَا ، لُطْفَ أَعْظَمُ مِنْ سَتْرِ الْقَبِيحِ وَإِظْهَارِ الْجَمِيلِ فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِجَمِيلِ نَظَرِ اللَّهِ لَهُ لَا بِحَمْدِ النَّاسِ ، وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=58قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا فَكَأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ مَقْبُولٌ ، فَفَرِحَ بِهِ .
الثَّانِي : أَنْ يَسْتَدِلَّ بِإِظْهَارِ اللَّهِ الْجَمِيلَ وَسَتْرِهِ الْقَبِيحَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ كَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي الْآخِرَةِ ؛ إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=912112مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ ذَنْبًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ .
فَيَكُونُ الْأَوَّلُ فَرِحًا بِالْقَبُولِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهَذَا الْتِفَاتٌ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَظُنَّ رَغْبَةَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الطَّاعَةِ فَيَتَضَاعَفُ ، بِذَلِكَ أَجْرُهُ ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ الْعَلَانِيَةِ بِمَا أَظْهَرَ آخِرًا وَأَجْرُ السِّرِّ بِمَا قَصَدَهُ أَوَّلًا ، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي طَاعَةٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَعْمَالِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَتَوَقُّعُ ذَلِكَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ سَبَبَ السُّرُورِ ، فَإِنَّ ظُهُورَ مَخَايِلِ الرِّبْحِ لَذِيذٌ ، وَمُوجِبٌ لِلسُّرُورِ ، لَا مَحَالَةَ .
الرَّابِعُ : أَنْ يَحْمَدَهُ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى طَاعَتِهِ ، فَيَفْرَحَ بِطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ فِي مَدْحِهِمْ ، وَبِحُبِّهِمْ لِلْمُطِيعِ ، وَبِمَيْلِ قُلُوبِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ إِذْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مَنْ يَرَى أَهْلَ الطَّاعَةِ فَيَمْقُتُهُ وَيَحْسُدُهُ أَوْ يَذُمُّهُ وَيَهْزَأُ بِهِ أَوْ يَنْسُبُهُ إِلَى الرِّيَاءِ ، وَلَا يَحْمَدُهُ عَلَيْهِ ! فَهَذَا فَرَحٌ بِحُسْنِ إِيمَانِ عِبَادِ اللَّهِ .
وَعَلَامَةُ الْإِخْلَاصِ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ بِحَمْدِهِمْ غَيْرَهُ مِثْلَ فَرَحِهِ بِحَمْدِهِمْ إِيَّاهُ .
وَأَمَّا الْمَذْمُومُ وَهُوَ الْخَامِسُ فَهُوَ ، أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ لِقِيَامِ مَنْزِلَتِهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ ؛ حَتَّى يَمْدَحُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ ، وَيَقُومُوا بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَيُقَابِلُوهُ ، بِالْإِكْرَامِ فِي مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .