الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس : الكبر بالمال ، وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم ، وبين التجار في بضائعهم ، وبين الدهاقين في أراضيهم ، وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم ، فيستحقر الغني الفقير ، ويتكبر عليه ، ويقول له : أنت مكد ومسكين ، وأنا لو أردت لاشتريت مثلك ، واستخدمت من هو فوقك ، ومن أنت ? وما معك ? وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك ، وأنا أنفق في اليوم ما لا تأكله في سنة وكل ذلك لاستعظامه للغنى ، واستحقاره للفقر ، وكل ذلك جهل منه بفضيلة الفقر وآفة الغنى ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا حتى أجابه فقال : إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وكان ذلك منه تكبرا بالمال والولد .

ثم بين الله عاقبة أمره بقوله : يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ومن ذلك تكبر قارون إذ قال تعالى إخبارا عن تكبره : فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم .

السادس : الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف .

السابع : التكبر بالأتباع والأنصار والتلامذة والغلمان وبالعشيرة والأقارب والبنين ، ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين .

وبالجملة : فكل ما هو نعمة ، وأمكن أن يعتقد كمالا وإن لم يكن في نفسه كمالا أمكن أن يتكبر به ، حتى إن المخنث ليتكبر على أقرانه بزيادة معرفته وقدرته في صنعة المخنثين ؛ لأنه يرى ذلك كمالا ، فيفتخر به ، وإن لم يكن فعله إلا نكالا وكذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشرب وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان ، ويتكبر به ؛ لظنه أن ذلك كمال ، وإن كان مخطئا فيه .

فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض ، فيتكبر من يدلي بشيء منه على من لا يدلي به ، أو على من يدلي بما هو دونه في اعتقاده .

وربما كان مثله أو فوقه عند الله تعالى ، كالعالم الذي يتكبر بعلمه على من هو أعلم منه لظنه أنه هو الأعلم ولحسن ، اعتقاده في نفسه .

نسأل الله العون بلطفه ورحمته إنه على كل شيء قدير .

التالي السابق


(الخامس: الكبر بالمال، وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم، وبين التجار في بضائعهم، وبين الدهاقين) جمع دهقان، وهو رئيس القرية (في أراضيهم، وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم، فيستحقر الغني الفقير، ويتكبر عليه، ويقول له: أنت مكد) أي: صاحب كدية، أي: فقير (ومسكين، وأنا لو أردت لاشتريت مثلك، واستخدمت من هو فوقك، ومن أنت؟ وما معك؟ وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك، وأنا أنفق في اليوم) الواحد (ما لا تأكله في سنة) وما يجري مجراه (وكل ذلك لاستعظامه للغنى، واستحقاره للفقر، وكل ذلك جهل منه بآفة الغنى، وفضيلة الفقر، وإليه الإشارة بقوله تعالى:) واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين الآية ( فقال لصاحبه وهو يحاوره ) أي: يراجعه في الكلام ( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) حشما وأموالا، وقيل: أولادا ذكورا (حتى أجابه فقال:) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ( إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ) وفي قوله: وولدا دليل لمن فسر النفر بالأولاد ( فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ) في الدنيا وفي الآخرة (إلى قوله: فلن تستطيع له طلبا ) أي: للماء الغائر .

(وكان ذلك تكبرا منه بالمال والولد، ثم بين عاقبة أمره بقوله: يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ) كأنه تذكر موعظة أخيه، وعلم أنه من قبل شركه، فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يهلك بستانه. ويحتمل أن يكون توبة من الشرك، وندما على ما سبق منه .

(ومن ذلك تكبر قارون) بن ياسف بن لاوى، من ولد يعقوب -عليه السلام- وهو صاحب الكنوز، المذكورة قصته في القرآن (إذ قال تعالى إخبارا عن تكبره: فخرج على قومه في زينته حتى قال قوم: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ) أي: من الأموال والحشم ( إنه لذو حظ عظيم ) وكل ذلك تكبر بالأموال والأعوان والحشم .

(السادس: الكبر بالقوة وشدة البطش) فيفتخر بها ويتباهى (والتكبر على أهل الضعف) الذين لا قوة لهم ولا بطش .

(السابع: التكبر بالأتباع والأنصار ) والأعوان (والتلامذة والغلمان) بالشراء أو الاستئجار (وبالعشيرة والأقارب والبنين، ويجري ذلك) غالبا (بين الملوك في المكاثرة بالجنود) والعساكر (وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين) منهم .

(وبالجملة: فكل ما هو نعمة، وأمكن أن يعتقد كمالا وإن لم يكن في نفسه كمالا أمكن أن يتكبر به، حتى إن المخنث) بكسر النون المشددة، وهو من يتشبه بالنساء في حركاتهن (يتكبر على أقرانه بزيادة معرفته وقدرته في صنعة المخنثين؛ لأنه يرى ذلك كمالا، فيفتخر به، وإن لم يكن فعله إلا نكالا) ووبالا عليه .

(وكذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشرب) للخمور (وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان، ويتكبر به؛ لظنه ذلك كمالا، وإن كان مخطئا فيه) ولولا ظنه كذلك لما تباهى به .

(فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض، فيتكبر من يدلي) أي: يتقرب (بالشيء على من لا يدلي بذلك الشيء، أو على من يدلي بما هو دونه في اعتقاده، وربما كان مثله أو فوقه عند الله، كالعالم الذي يتكبر بعلمه على من هو أعلم منه لظنه) في نفسه (أنه) هو (الأعلم، وبحسن اعتقاده في نفسه) والله أعلم .




الخدمات العلمية