الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والمؤمنين بألسنتهم وبعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله تعالى وهجروا الأعمال الصالحة وبسوا ، الشهوات والمعاصي فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة نعم أمرهم أخف لأن أصل الإيمان يعصمهم عن عقاب الأبد فيخرجون من النار ، ولو بعد حين ولكنهم أيضا من المغرورين فإنهم اعترفوا بأن الآخرة خير من الدنيا ، ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها ومجرد الإيمان لا يكفي للفوز ; قال تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وقال تعالى : إن رحمت الله قريب من المحسنين ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه .

وقال تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فوعد المغفرة في جميع كتاب الله تعالى منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعا لا بالإيمان وحده فهؤلاء أيضا مغرورون أعني المطمئنين إلى الدنيا الفرحين بها المترفين بنعيمها المحبين لها .

الكارهين للموت ; خيفة فوات لذات الدنيا دون الكارهين له خيفة لما بعده فهذا مثال الغرور بالدنيا من الكفار والمؤمنين جميعا .

التالي السابق


ثم إن ذلك الحجب الحاصل لهم من الغرور الشيطاني لا يختص به الكفار المحجوبون بمجرد الظلمة، بل قد يحصل أيضا لجماعة ظاهرهم الإسلام، وباطنهم ملوث بالعقائد الفاسدة، ولهم أعمال سيئة، وإليه أشار المصنف بقوله: (والمؤمنون بألسنتهم وبعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله تعالى) ، ولم يقوموا بها كما أمروا تهاونا بها (وهجروا الأعمال الصالحة، وبسوا الشهوات) النفسية، وآثروا اللذات الحسية، (و) ارتكبوا (المعاصي) ، والدناءات (فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور) ، ومحجوبون بمحض الظلمة كما حجبوا; (لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة) ، فكان حجابهم أنفسهم الكدرة وشهواتهم المظلمة، فلا ظلمة أشد من الهوى والنفس، (نعم أمرهم أخف) من أمر الكفار; (لأن أصل الإيمان يعصمهم من عقاب الأبد فيخرجون من النار، ولو بعد حين) لما روى الترمذي، وقال: حسن صحيح من حديث أبي سعيد: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان"، وروى أحمد، والشيخان، والترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أنس: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة"، وللبخاري من حديثه: "يخرج من النار قوم بعد ما احترقوا فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين"، (ولكنهم أيضا من المغرورين فإنهم اعترفوا بأن الآخرة خير من الدنيا، ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها) ، وانهمكوا في شهواتها ولذاتها، (ومجرد الإيمان) عن صالح العمل (لا يكفي للفوز; قال الله تعالى: وإني لغفار لمن تاب ) ، عن الشرك ( وآمن ) بما يجب الإيمان به ( وعمل صالحا ثم اهتدى ) ، ثم استقام على الهدى المذكور، (وقال تعالى: إن رحمت الله قريب من المحسنين ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه) فإن لم تكن تراه فإنه يراك" رواه أحمد، والشيخان، وابن ماجه من حديث أبي هريرة، ورواه النسائي من حديث أبي هريرة وأبي ذر معا، ورواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث عمر، ويروى: "الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإذا فعلت [ ص: 435 ] ذلك فقد أحسنت"، هكذا رواه أحمد والبزار من حديث ابن عباس، ورواه ابن حبان من حديث ابن عمر، ورواه أحمد أيضا من حديث أبي عامر، أو أبي مالك، ورواه البزار أيضا من حديث أنس، وهو في تاريخ ابن عساكر من حديث عبد الرحمن بن غنم، وقد اختلف في صحبته، (وقال تعالى: والعصر إن الإنسان ) التعريف للجنس ( لفي خسر ) في مساعيهم، وصرف أعمالهم في مطالبهم، والتنكير للتعظيم ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا ففازوا بالحياة الأبدية، والسعادة السرمدية، (فوعد المغفرة في جميع كتاب الله منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعا لا بالإيمان وحده فهؤلاء أيضا مغرورون أعني المطمئنين إلى الدنيا) المائلين إليها (الفرحين بها المترفهين بنعيمها) المتقلبين في لذاتها (المحبين لها الكارهين للموت; خيفة فوات لذات الدنيا) فقط، (دون الكارهين له خيفة لما بعده) من الأهوال، والشدائد، والوقوف بين يدي الله تعالى، (فهذا مثال الغرور بالدنيا من الكفار والمؤمنين جميعا) ، ومن المؤمنين من حجب بمحض الأنوار فاغتروا بها، وهذا القسم الثالث من الأقسام التي ذكرناها، وهم كذلك أصناف شتى، وقد دخلهم الغرور في عقائدهم ومذاهبهم، وإنما الواصل منهم صنف واحد، وهم العارفون .




الخدمات العلمية