الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبهذا الاعتبار قال صلى الله عليه وسلم : الندم توبة .

إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره ، وعن عزم يتبعه ويتلوه فيكون الندم محفوفا بطرفيه فيه أعني ثمرته ومثمره وبهذا الاعتبار قيل في حد التوبة : إنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ ، فإن هذا يعرض لمجرد الألم ولذلك قيل :

هو نار في القلب تلتهب وصدع في الكبد لا ينشعب

وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة : إنه خلع لباس الجفاء ، ونشر بساط الوفاء وقال سهل بن عبد الله التستري التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة ولا يتم ذلك إلا بالخلوة والصمت وأكل الحلال وكأنه أشار إلى المعنى الثالث من التوبة والأقاويل في حدود التوبة لا تنحصر وإذا فهمت هذه المعاني الثلاثة وتلازمها وترتيبها عرفت أن جميع ما قيل في حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها ، وطلب العلم بحقائق الأمور أهم من طلب الألفاظ المجردة .

التالي السابق


(وبهذا الاعتبار قيل في حد التوبة: إنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ، فإن هذا تعرض لمجرد الألم) ، والحشا داخل البطن، وذوبانه بتأثير ألم فيه عن الزلات السابقة; (ولذلك قيل:


هو نار في القلب تلتهب وصدع في الكبد لا ينشعب )



أي: شيء لا ينجبر ولا يلتئم، (وباعتبار معنى الترك) الذي هو ثمرة التوبة (قيل في حد التوبة: إنه خلع لباس الجفاء، ونشر بساط الوفاء) ، والمراد بخلع لباس الجفاء أن لا يعود إلى ما يبعده عن حضرة الله وينشر لباس الوفاء بأن يستقيم عليه، فلا يمر بباله الجفاء حتى ذكره .

قال القشيري في الرسالة: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال: سمعت أبا عبد الله بن مفلح بالأهواز يقول: سمعت شمر بن زيري يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت على السري يوما فرأيته متغيرا فقلت له: ما بالك؟ فقال: دخل علي شاب فسألني عن التوبة. فقلت له: أن لا تنسى ذنبك، فعارضني، وقال: بل التوبة أن تنسى ذنبك، فقلت: إن الأمر عندي على ما قال: الشاب. فقال: لم قلت؟ لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الوفاء، فذكر الجفاء في حال الصفا وفاء، فسكت، وسيأتي الكلام على هذا .

(وقال) أبو محمد (سهل بن عبد الله التستري) رحمه الله تعالى أول ما يؤمر به المبتدئ المريد (التوبة) ، وهو (تبديل) ولفظ القوت تحويل (الحركات المذمومة بالحركات المحمودة) ، ولفظ القوت إلى الحركات المحمودة، (ولا يتم ذلك إلا بالخلوة والصمت وأكل الحلال) ، ولفظ القوت ويلزم نفسه الخلوة والصمت، ولا تصح له التوبة إلا بأكل الحلال، ولا يقدر على الحلال حتى يؤدي حق الله تعالى في الخلق، وحق الله تعالى في نفسه، ولا يصح هذا حتى يتبرأ عن كل حركة وسكون إلا بالله، وحتى لا يأمن الاستدراج بأعمال الصالحين، هذا تمام قول سهل، (وكأنه) رحمه الله تعالى (أشار إلى المعنى الثالث من التوبة) ، ومن نظر إلى أن الإنسان متركب من طرفي مشابهة الملائكة والبهائم، فبميله إلى صفة البهائم يبعد عن ربه، وبميله إلى صفة الملائكة يقرب من ربه، وطباع البهائم شر كله، وطباع الملائكة خير كله .

قال: إن حقيقة التوبة ترجع إلى الرجوع من الشر الشرعي إلى الخير الشرعي، ومن الطريق المبعدة إلى الطريق المقربة، وهذا الحد أعم من قولنا هي الرجوع من المعصية إلى الطاعة; لأن الحد الأول يدخل فيه الوجوب والاستحباب; قال الله تعالى: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار وتوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجوعه من حسن إلى أحسن منه، ومن قرب إلى ما هو أقرب منه وأسنى، (والأقاويل في حدود التوبة لا تنحصر) ، وقد ذكر بعضها في القوت، وبعضها وأجمعها وأشدها على ما قال صاحب الفهم: إنها اختيار ترك ذنب سبق حقيقة أو تقديرا لأجل الله تعالى .

(وإذ) قد (فهمت هذه المعاني الثلاث وتلازمها وترتيبها عرفت أن جميع ما قيل في حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها، وطلب العلم بحقائق الأمور أهم من طلب الألفاظ المجردة) التي لا تحيط بالمعاني كلها، والله الموفق .




الخدمات العلمية