الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وهو قريب ، ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء إذ ; يمكن الزيادة عليه والنقصان منه ، فإنه جعل أكل الربا ومال اليتيم من الكبائر ، وهي جناية على الأموال ، ولم يذكر في كبائر النفوس إلا القتل ، فأما فقء العين وقطع اليدين وغير ، ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرض له ، وضرب اليتيم وتعذيبه وقطع أطرافه لا شك في أنه أكبر من أكل ماله ، كيف وفي الخبر : « من الكبائر السبتان بالسبة ، ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم » . .

وهذا زائد على قذف المحصن ، وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر .

وقالت طائفة كل عمد كبيرة وكل ما نهي عنه فهو كبيرة وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة أهي كبيرة أم لا لا يصح ما لم يفهم معنى الكبيرة والمراد بها كقول القائل : السرقة حرام أم لا ولا ؟ مطمع في تعريفه إلا بعد تقرير معنى الحرام أولا ، ثم البحث عن وجوده في السرقة . فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع ، وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه ، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه ; فالمضاجعة مع الأجنبية كبيرة بالإضافة إلى النظرة ، صغيرة بالإضافة إلى الزنا ، وقطع يد المسلم كبيرة بالإضافة إلى ضربه ، صغيرة بالإضافة إلى قتله نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة ، ونعني بوصفه بالكبيرة أن العقوبة بالنار عظيمة ، وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيرا إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبة واجبة عظيم ، وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهي عنه فيقول : تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه ، ثم يكون عظيما وكبيرة لا محالة بالإضافة ; إذ منصوصات القرآن أيضا تتفاوت درجاتها ، فهذه الإطلاقات لا حرج فيها ، وما نقل من ألفاظ الصحابة يتردد بين هذه الجهات ، ولا يبعد تنزيلها على شيء من هذه الاحتمالات ، نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر فإن هذا إثبات حكم الكبائر ، والحق في ذلك أن الذنوب منقسمة في نظر الشرع إلى ما يعلم استعظامه إياها وإلى ما يعلم أنها معدودة في الصغائر وإلى ما يشك فيه فلا يدرى حكمه فالطمع في معرفة حد حاصر أو عدد جامع مانع طلب لما لم يمكن ; فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إني أردت بالكبائر عشرا ، أو خمسا ويفصلها فإن لم يرد هذا ، بل ورد في بعض الألفاظ : ثلاث من الكبائر وفي بعضها سبع من الكبائر ثم ورد أن السبتين بالسبة الواحدة من الكبائر وهو خارج عن السبع والثلاث علم أنه لم يقصد به العدد بما يحصر فكيف يطمع في عدد ما لم يعده الشرع ، وربما قصد الشرع إبهامه ليكون العباد منه على وجل ، كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها نعم لنا سبيل كلي يمكننا أن نعرف به أجناس الكبائر وأنواعها ، بالتحقيق ، وأما أعيانها فنعرفها بالظن والتقريب ونعرف أيضا أكبر الكبائر فأما أصغر الصغائر فلا سبيل إلى معرفته ، وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع ، وأنوار البصائر جميعا أن مقصد الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى ، وسعادة لقائه ، وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ، ومعرفة صفاته وكتبه ورسله ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليكونوا عبيدا لي ولا يكون العبد عبدا ما لم يعرف ربه بالربوبية ، ونفسه بالعبودية ، ولا بد أن يعرف نفسه وربه فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا ، وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام : « الدنيا مزرعة الآخرة » فصار حفظ الدنيا أيضا مقصودا تابعا للدين ; لأنه وسيلة إليه ، والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان : النفوس والأموال فكل ما يسد باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ، ويليه ما يسد باب حياة النفوس ، ويليه باب ما يسد المعايش التي بها حياة الناس .

، فهذه ثلاث مراتب ، فحفظ المعرفة على القلوب والحياة ، على الأبدان والأموال ، على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها ، وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبيا يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ، ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله ، أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب : الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله ، وهو الكفر ، فلا كبيرة فوق الكفر ، إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة ، وقربه بقدر معرفته وبعده بقدر جهله ويتلو الجهل الذي يسمى كفرا الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته فإن هذا أيضا عين الجهل فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمنا ولا أن يكون آيسا ويتلو هذه الرتبة البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله ، وبعضها أشد من بعض ، وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها ، وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه .

التالي السابق


ولنعد إلى شرح كلام المصنف فإنه بعد ما أورد سياق كلام أبي طالب المكي من تقسيمه الكبائر على الأعضاء قال: (وهو قريب، ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء; إذا يمكن الزيادة عليه والنقصان منه، فإنه جعل أكل الربا و) أكل (مال اليتيم من الكبائر، وهي جناية على الأموال، ولم يذكر في كبائر النفوس إلا القتل، فأما فقء العين) أي: نخسها، (وقطع اليدين، ونحو ذلك من تعذيب المسلمين بالضر وأنواع العذاب فلم يتعرض له، وضرب اليتيم وتعذيبه وقطع أطرافه لا شك في أنه أكبر من أكل ماله، كيف وفي الخبر: "من الكبائر السبتان بالسبة، ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم") قال العراقي عزاه الديلمي في مسند الفردوس لأحمد وأبي داود من حديث سعيد بن زيد، والذي عندهما من حديثه: "من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" كما تقدم اهـ .

قلت: ولفظ القوت: وقد روينا عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة"، وقد رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، وفي ذم الغضب هكذا عن الحسن بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد عن العلاء بن عبد الرحمن، ولفظ أبي داود: "من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض الرجل المسلم بغير حق، ومن الكبائر السبتان بالسبة"، وهكذا رواه أيضا ابن أبي حاتم، وابن مردويه.

وأما حديث سعيد بن زيد فقد رواه أحمد، وسمويه، والطبراني، وابن قانع، والضياء بلفظ: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" الحديث .

(وهذا زائد على قذف المحصن، وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة) رضوان الله عليهم: (إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر) لفظ القوت .

وأما عبادة بن الصامت، وأبو سعيد الخدري، وغيرهما من الصحابة فكانوا يقولون: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر. وهي في بعض الألفاظ من الموبقات اهـ .

قال العراقي: رواه أحمد والبزار بسند صحيح، وقال: من الموبقات، بدل: الكبائر، ورواه البخاري من حديث أنس، وأحمد، والحاكم من حديث عبادة بن الصامت، وقال: صحيح الإسناد .

(وقالت طائفة) من العلماء: (كل عمل كبيرة) نقله صاحب القوت، (و) قال آخرون: (كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة) كذا في القوت، ورواه البيهقي في الشعب عن ابن عباس، وقد تقدم .

(وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة هل هي كبيرة أم لا لا يصح ما لم يفهم معنى الكبيرة والمراد بها) ، وهذا (كقول القائل: السرقة حرام أم لا ؟ لا مطمع في تعريفه إلا بعد تقرير معنى الحرام أولا، ثم البحث عن وجوده في السرقة. فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع، وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات) ، أو من الأسماء المتضايفة يستعملان في الكمية المتصلة كالأجسام، وذلك كالكثير والقليل في الكمية المتصلة كالعدد، (وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه; فالمضاجعة مع الأجنبية كبيرة بالإضافة إلى النظرة، صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقطع يد المسلم كبيرة بالإضافة إلى ضربه، صغيرة بالإضافة إلى قتله) ، ونقل ابن الرفعة وغيره عن القاضي حسين عن [ ص: 538 ] الحليمي: أن الكبيرة كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه; فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان فاحشة; فالزنا كبيرة وبحليلة الجار فاحشة .

والصغيرة تعاطي ما ينقص عن رتبة المنصوص عليه، أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان كبيرة; فالقبلة واللمس، والمفاخذة صغيرة، ومع حليلة الجار كبيرة .

ومن اختيارات الحليمي أنه: ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة بقرينة تضم إليها، إلا الكفر بالله فإنه أفحش الكبائر، وليس من نوعه صغيرة (نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار) في الآخرة (على فعله خاصة اسم الكبيرة، ونعني بوصفه بالكبيرة أن العقوبة بالنار عظيمة، وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه) في الدنيا (مصيرا إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبة واجبة) من رجم، أو قتل، أو ضرب (عظيم، وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهي عنه فيقول: تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه، ثم يكون عظيما وكبيرة لا محالة بالإضافة; إذ منصوصات القرآن أيضا تتفاوت درجاتها، فهذه الإضافات لا حرج فيها، وما نقل من ألفاظ الصحابة) ابن مسعود، وأبي سعيد، وابن عمر، وغيرهم (يتردد بين هذه الجهات، ولا يبعد تنزيلها على شيء من هذه الاحتمالات، نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) أي: كبائر الذنوب التي نهاكم الله ورسوله عنها، وقرئ كبير، على إرادة الجنس ( نكفر عنكم سيئاتكم ) أي: نغفر لكم صغائركم، ونمنعها عنكم، (و) معنى (قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلوات) الخمس (كفارات لما بينهن إلا الكبائر) رواه مسلم، وقد تقدم الكلام عليه قريبا; (فإن هذا إثبات حكم الكبائر، والحق في ذلك أن الذنوب منقسمة في نظر الشرع إلى ما يعلم استعظامه إياها) بالإيعاد عليها، أو بإيجاب الحد في الدنيا على مرتكبها مثلا، (وإلى ما يعلم أنها معدودة في الصغائر) ، وذلك ينقص رتبتها عن رتبة المنصوص عليها، (وإلى ما يشك فيه فلا يدرى حكمه) أهو من الكبائر أم من الصغائر، (فالطمع في معرفة عدد خاص) ينتهي إليه (أو حد جامع) للإيراد (مانع) من دخول ما ليس فيه منه (طلب لما لا يمكن; فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: إني أردت بالكبائر عشرا، أو خمسا) ، أو سبعا، (ويفصلها فإن لم يرد هذا، بل ورد في بعض الألفاظ: ثلاث من الكبائر) ، وهو ما رواه أحمد والشيخان والترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور"، ورواه الطبراني في الكبير، والخرائطي في مساوئ الأخلاق من حديث أبي الدرداء، وأخرجه أحمد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه من حديث أبي أيوب: "من عبد الله لا يشرك به شيئا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر، فله الجنة" فسأله رجل ما الكبائر؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس المسلمة، والفرار يوم الزحف. (وفي بعضها سبع من الكبائر) رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد: الكبائر سبع، وقد تقدم، وله في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو: "من صلى الصلوات الخمس، واجتنب الكبائر" الحديث، ثم عدها سبعا. وتقدم عن الصحيحين من حديث أبي هريرة: "اجتنبوا السبع الموبقات" (ثم ورد أن السبتين بالسبة الواحدة من الكبائر) كما رواه أبو داود، وابن أبي الدنيا في ذم الغضب، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من حديث أبي هريرة وتقدم، (وهو خارج عن السبع والثلاث علم أنه لم يرد به العدد والحصر) ، وإذا كان الأمر كذلك، (فكيف يطمع في عدد ما لم يعدده الشرع، وربما قصد الشرع إبهامه ليكون العباد منه على وجل، كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها) ، ولهذا ذهب بعض السلف أن الكبائر مبهمة، وقطع بذلك كما تقدم، (نعم لنا سبيل كلي يمكننا أن نعرف به أجناس الكبائر، وأنواعه بالتحقيق، وأما أعيانها فتعرف بالظن والتقريب) ، وذلك بالحدود التي ذكرت [ ص: 539 ] آنفا، (ونعرف أيضا أكبر الكبائر فأما أصغر الصغائر فلا سبيل) لنا (إلى معرفته، وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع، وأنوار البصائر جميعا أن مقصود الشرائع كلها سياقه الخلق إلى جوار الله تعالى، وسعادة لقائه، وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى، ومعرفة صفاته وكتبه ورسله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي) إلا: ليعرفون، أو (ليكونوا عبيدا لي) خاصة، (ولا يكون العبد عبدا ما لم يعرف ربه بالربوبية، ونفسه بالعبودية، ولا بد أن يعرف نفسه وربه) كما يرشد إليه الخبر: "من عرف نفسه عرف ربه"، (فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء) والرسل عليهم السلام إلى الخلق ليرشدوهم إلى ذلك، وكذا بإرسال الكتب من السماء، (ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا مزرعة الآخرة") قال العراقي: لم أجده بهذا اللفظ مرفوعا، ورواه العقيلي في الضعفاء، وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم: "نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته.." الحديث، وإسناده ضعيف اهـ .

قلت: وتمامه حتى يرضي ربه، وبئست الدار الدنيا لمن صدته عن آخرته، وقصرت به عن رضا ربه، وإذا قال العبد: قبح الله الدنيا، قالت الدنيا: قبح الله أعصانا لربه، وقد رواه كذلك الرامهرمزي في الأمثال، وهو عند الحاكم في مستدركه وصححه، لكن تعقبه الذهبي بأنه منكر، وأن عبد الجبار -يعني راويه- لا يعرف .

ويروى من قول سعيد بن عبد العزيز: الدنيا غنيمة الآخرة. أخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق عقبة بن علقمة عنه، (فصار حفظ الدنيا أيضا تابعا مقصودا لحفظ الدين; لأنه وسيلة إليه، والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان: النفوس والأموال فكل ما يسد باب معرفة الله) ، وصفاته (فهو أكبر الكبائر، ويليه ما يسد باب حياة النفوس، ويليه ما يسد باب المعايش التي بها حياة النفوس، فهذه ثلاث مراتب، فحفظ المعرفة على القلوب، و) حفظ (الحياة على الأبدان، و) حفظ (الأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها، وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل) بأسرها (فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبيا يريد ببعثته إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم، ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله، أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال فحصل من هذا أن معرفة الكبائر على ثلاث مراتب: الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله، وهو الكفر، فلا كبيرة فوق الكفر، إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل والوسيلة المقربة إليه هو العلم والمعرفة، وقربه) من ربه (بقدر معرفته) وعلمه، (وبعده) منه (بقدر جهله) ، فمن قوي جهله كان في المرتبة الأقصى من البعد، ومن قوي علمه كان في المرتبة الأعلى من القرب .

(ويتلو الجهل الذي يسمى كفرا الأمن من مكر الله) بالاسترسال في المعاصي مع الاتكال على الرحمة، (والقنوط من رحمته) ، وهو بعينه اليأس من رحمته، وسوء الظن بالله تعالى لتلازم الثلاثة في معنى واحد، لكن الجلال البلقيني عد كل واحدة كبيرة مستقلة، ومن ثم قال أبو زرعة العراقي: وفي معنى اليأس القنوط، والظاهر أنه أبلغ منه للترقي إليه في قوله تعالى: وإن مسه الشر فيئوس قنوط اهـ. والظاهر أيضا أن سوء الظن أبلغ منهما; لأنه يأس، وقنوط، وزيادة التجوير على الله تعالى بما لا يليق بجوده وكرمه، وفي حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وخرجه البزار، وابن أبي حاتم، وأخرج ابن المنذر عن علي رضي الله عنه قال: أكبر الكبائر الأمن من مكر الله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، وأخرج ابن جرير عن أبي سعيد نحوه; (فإن هذا أيضا عين الجهل فمن عرف الله) بصفاته الحسنى (لم يتصور أن يكون آمنا) من مكره وغضبه، (ولا يكون آيسا) من رحمته، (ويتلو هذه الرتبة البدع كلها [ ص: 540 ] المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله، وبعضها أشد من بعض، وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها، وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه وبأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه) ، ومن ذلك التكذيب بالقدر أي: بأن الله يقدر على عبده الخير والشر، كما زعمه المعتزلة فإنهم يقولون: إن العبد يخلق أفعال نفسه من دون الله تعالى، فهم ينكرون القدر فسموا بذلك قدرية، وكذا القول بالإرجاء والإباحة ومقالة جهم، والتعطيل، والشطح، والرفض، وغير ذلك من البدع مما يذهب الإيمان وينبت النفاق .




الخدمات العلمية