نعم ، كان لله عليه نعمة ; إذ وفقك للحسنات ، فنقلتها إليه ، فأضفت إليه نعمة إلى نعمة ، وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة .
وأما منفعته في الدنيا ، فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم وشقاوتهم ، وكونهم معذبين مغمومين ، ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد ، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة ، وأن تكون في غم وحسرة بسببهم ، وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم ولذلك لا يشتهي عدوك موتك ، بل يشتهي أن تطول حياتك ، ولكن في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله عليه فيتقطع قلبك حسدا ; ولذلك قيل :
لا مات أعداؤك بل خلدوا حتى يروا فيك الذي يكمد لا زلت محسودا على نعمة
فإنما الكامل من يحسد
وقد قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله : الرجل يحب القوم ولما ، يلحق بهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : المرء مع من أحب .
. وقام أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فقال يا رسول الله : متى الساعة ? فقال : ما أعددت لها ? قال : ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ، إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال صلى الله عليه وسلم : أنت مع من أحببت
قال فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ ; إشارة إلى أن أكبر بغيتهم كانت حب الله ، ورسوله ، قال أنس فنحن نحب رسول الله ، أنس وأبا بكر ، ولا نعمل مثل عملهم ، ونرجو أن نكون معهم وعمر ، وقال أبو موسى قلت : يا رسول الله ، الرجل يحب المصلين ولا يصلي ، ويحب الصوام ولا يصوم حتى عد أشياء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو مع من أحب .
وقال رجل إنه كان يقال : إن استطعت أن تكون عالما ، فكن عالما ، فإن لم تستطع أن تكون عالما ، فكن متعلما فإن لم تستطع أن تكون متعلما فأحبهم ، فإن لم تستطع فلا تبغضهم ، فقال سبحان الله لقد ; جعل الله لنا مخرجا . لعمر بن عبد العزيز
فانظر الآن كيف حسدك إبليس ، ففوت عليك ثواب الحب ، ثم لم يقنع به حتى بغض إليك أخاك ، وحملك على الكراهة حتى أثمت وكيف لا وعساك تحاسد رجلا من أهل العلم ، وتحب أن يخطئ في دين الله تعالى ، وينكشف خطؤه ليفتضح وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم ، أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم ، وأي إثم يزيد على ذلك فليتك إذ فاتك اللحاق به ، ثم اغتممت بسببه سلمت من الإثم ، وعذاب الآخرة ، وقد جاء في الحديث : أهل الجنة ثلاثة : المحسن والمحب له ، والكاف عنه .
أي من يكف عن الأذى والحسد والبغض والكراهة فانظر كيف أبعدك إبليس عن جميع المداخل الثلاثة حتى لا تكون من أهل واحد منها ألبتة فقد نفذ فيك حسد إبليس ، وما نفذ حسدك في عدوك ، بل على نفسك بل لو كوشفت بحالك في يقظة ، أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي سهما إلى عدوه ليصيب مقتله فلا يصيبه ، بل يرجع إلى حدقته اليمنى ، فيقلعها فيزيد غضبه فيعود ثانية فيرمي ، أشد من الأولى ، فيرجع إلى عينه الأخرى فيعميها فيزداد غيظه ، فيعود على رأسه ، فيشجه وعدوه سالم في كل حال وهو إليه راجع مرة بعد أخرى ، وأعداؤه حوله يفرحون به ، ويضحكون عليه ، وهذا حال الحسود ، وسخرية الشيطان منه ، بل حالك في الحسد أقبح من هذا ; لأن الرمية العائدة لم تفوت إلا العينين ، ولو بقيتا لفاتتا بالموت لا محالة .
والحسد يعود بالإثم ، والإثم لا يفوت بالموت ، ولعله يسوقه إلى غضب الله ، وإلى النار فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيقلعها لهيب النار فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود ، فلم يزلها عنه ، ثم أزالها عن الحاسد ; إذ السلامة من الإثم نعمة والسلامة ، من الغم ، والكمد نعمة قد زالتا عنه ؛ تصديقا لقوله تعالى : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، وربما يبتلى بعين ما يشتهيه لعدوه ، وقلما يشمت شامت بمساءة إلا ويبتلى بمثلها حتى قالت رضي الله عنها : ما تمنيت عائشة شيئا إلا نزل بي حتى لو تمنيت له القتل لقتلت فهذا لعثمان وهو الداء الذي فيه هلك الأمم السالفة . إثم الحسد نفسه ، فكيف ما يجر إليه الحسد من الاختلاف ، وجحود الحق ، وإطلاق اللسان ، واليد بالفواحش في التشفي من الأعداء
فهذه هي الأدوية العلمية ، فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأت نار الحسد من قلبه وعلم أنه مهلك نفسه ، ومفرح عدوه ، ومسخط ربه ، ومنغص عيشه .