الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا أبو داود عن شعبة عن الأشعث بن سليم ) بالتصغير ( قال : سمعت عمتي ) اسمها رهم بضم الراء ، وسكون الهاء بنت الأسود بن خالد ، كذا في التقريب ، وقيل : بنت الأسود بن حنظلة ( تحدث عن عمها ) أي عم عمة أشعث بن سليم ، اسمه عبيد بن خالد المحاربي ، سكن الكوفة ، وأما ما قال العصام أن الأصح ما في بعض النسخ عن عم أبيها ، أي عم ابن حنظلة ، فغير صحيح مع أنه ليس موجودا في أصلنا ، ولا في النسخ الحاضرة أصلا ، نعم .

ذكر ميرك شاه أنه وقع في كتاب تهذيب الكمال عن عم أبيه وحينئذ يرجع الضمير المجرور إلى الأشعث ، ولا يخفى أن عم عمة الشخص هو عم أبيه ( قال بينما أنا أمشي ) أتى بصيغة المضارع استحضارا للحال الماضية ( بالمدينة ) أي في المدينة كما في بعض النسخ ، وفي نسخة : بينا بحذف الميم ، وأصله بين وهو الوسط ، وقد تشبع فتحتها فتتولد ألفا ، وقد تزاد فيها ميم ، وهما مضافان إلى ما بعدهما ، وقيل : ما والألف عوضان عن المضاف إليه المحذوف وفي المغرب [ ص: 212 ] بين من الظروف اللازمة ، ولا يضاف إلا إلى الاثنين فصاعدا ، أو ما قام مقامه كقوله تعالى : عوان بين ذلك وقد يحذف المضاف إليه ، ويعوض عنه ما أو الألف ، وفي النهاية هما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ، ويضافان إلى الجملة من فعل وفاعل أو مبتدأ وخبر ، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى ، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ ، وإذا . وقد جلا في الجواب كثيرا ، يقال : بينا زيد جالس دخل عليه عمرو ، وإذ دخل عليه وإذا دخل عليه ( إذا ) بالألف للمفاجأة ( إنسان خلفي ) قال صاحب الكشاف في قوله تعالى : وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون العامل في إذا معنى المفاجأة ، تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار ، فمعنى الحديث وقت مشيي بالمدينة ، فاجأت قول إنسان خلفي ، فحينئذ بينما ظرف لهذا المقدر ، وإذا مفعول بمعنى الوقت ، فلا يلزم تقدم معمول المضاف إليه على المضاف ، كذا حققه الحنفي ( يقول ) أي ذلك الإنسان بل عين الأعيان وإنسان العين عين الإنسان ، حين رآني مسبلا إزاري ، وغافلا عن حسن شعاري ، ثم قوله يقول خبر المبتدأ الموصوف ، والمقول قوله : ( ارفع إزارك ) أي عن الأرض ( فإنه ) أي : الرفع ( أتقى ) من التقوى أي أقرب إليها وأدل عليها ; لأنه يدل غالبا على انتفاء الكبر والخيلاء ، والتاء مبدلة عن الواو ; لأن أصلها من الوقاية ، فلما كثر استعماله توهموا أن التاء من أصل الحروف ، فقالوا : تقى يتقي مثل رمى يرمي ، وفي بعض النسخ أنقى بالنون من النقاء ، أي أنظف من الوسخ ( وأبقى ) بالموحدة أي أكثر دواما للثوب ، فعلل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمصلحة الدينية ، وهي طهارة القلب أو القالب أولا ; لأنها المقصودة بالذات ، وثانيا بالمنفعة الدنيوية ، فإنها التابعة للأخرى ، وفيه إيماء إلى أن المصالح الأخروية لا تخلو عن المنافع الدنيوية ، وأما قول ابن حجر وأنقى من الدنس وفي نسخة أبقى ، أي أكثر بقاء فغير موافق للأصول المعتمدة والنسخ المصححة ؛ مع أن المناسبة المعنوية تقتضيها بل النقاوة هي عين التقوى أو بعضها في المعنى ، والحاصل أن اختلاف النسخ في أتقى لا في أبقى بناء على أنه بتعدد النقطة الفوقية ، أو بوحدتها ، ويحتمل أن الأخير التصحيف ; لأنه مستغنى عنه بالأول ، فتأمل يظهر لك وجه المعول ( فالتفت ) كذا بخط ميرك في الهامش واقعا عليه علامة نسخة صحيحة ، أي نظرت إلى ورائي ( فإذا هو ) أي الإنسان ( رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي فاعتذرت عن فعلي ( فقلت يا رسول الله إنما هي ) أي الإزار والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله : ( بردة ) بضم الموحدة كساء يلبسه الأعراب ( ملحاء ) بفتح الميم تأنيث أملح ، والملحة بالضم بياض يخالطه سواد على ما في الصحاح ، وقيل : الملحاء التي فيها [ ص: 213 ] خطوط من سواد وبياض ، وقيل : ما فيه البياض أغلب ، وأما قول ابن حجر ملحاء بضم أوله فهو سهو قلمه ، وكأن الصحابي أراد أن مثل هذه لا خيلاء فيها ، وأن أمر بقائها ونقائها سهل لا كلفة معهما ، فأجابه صلى الله عليه وسلم بطلب الإقتداء به المشتمل على كمال الحكم الشاملة لعموم الأمم بسببه ، وحينئذ ( قال أما لك ) باستفهام إنكاري وما نافية ( في ) بتشديد الياء أي أليس لك في فعلي المحتوي على قولي وحالي ( أسوة ) بضم الهمزة وكسرها أي قدوة ومتابعة ، وأما قول الحنفي أي في قولي فلا يلائمه ، قوله : ( فنظرت ) أي إلى لباسه ( فإذا إزاره ) باعتبار طرفيه ( إلى نصف ساقيه ) وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للكامل أن يكون جامعا بين القول والفعل ; ليكمل هذا ، وقد أغرب الحنفي في هذا المقام ، حيث قال : كان الصحابي توهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ارفع إزارك ، الأمر بالقطع فاعتذر بأنها بردة ملحاء لا يناسب قطعها ، انتهى .

وهو خطأ فاحش لفظا ومعنى ، أما لفظا فإن إرادة القطع من الرفع لا تتصور من عجمي فكيف تجوز من صحابي عربي ، وأما معنى ، فإنه ينقلب اعتذاره اعتراضا مع أن البردة الملحاء مما يلبسه سكان البادية ، وأعجب منه قول العصام ، ونحن نقول : أراد إنها بردة ملحاء والعادة في الاكتساء بها هو ذلك ، فكيف أرفعها انتهى .

وفساده لا يخفى ; ولهذا قال ابن حجر : ولبعضهم هنا تخليط فاجتنبه ، ثم بما قررناه سابقا اندفع ما قاله ابن حجر ، من أن هذا الاعتذار إنما يتم في مقابلة قوله : أتقى بالفوقية ; لأنه الأهم والأحرى بالاعتناء به إذ اختلاله له يقدح نقصانا في الدين ، وهو التكبر والخيلاء ، ولم يعتذر عن الأخيرين ; لأن الأمر فيهما أسهل وأخف ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية