الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3333 33 - حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: سمعت سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت، ولا يحلبها أحد من الناس، والسائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء. قال: وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيب السوائب.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  أول هذا الحديث موقوف على سعيد بن المسيب، رواه البخاري عن أبي اليمان الحكم بن نافع الحمصي، عن شعيب بن [ ص: 91 ] أبي حمزة الحمصي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، وآخره عنه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما نذكره مفصلا.

                                                                                                                                                                                  أما البحيرة فهي التي يمنع درها - أي: لبنها - للطواغيت، أي: لأجلها، وهي جمع طاغوت، وهو الشيطان، وكل رأس في الضلال، وكان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها، أي: شقوها، وحرموا ركوبها ودرها، فلا تطرد عن ماء، ولا عن مرعى لتعظيم الطواغيت، وتسمى تلك الناقة البحيرة.

                                                                                                                                                                                  وأما السائبة فهي أن الرجل منهم كان يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، هذا هو المشهور. وقد خصصه البخاري بقوله: والسائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم، أي: لأصنامهم التي كانوا يعبدونها، وبعد ذلك لا يحمل عليها شيء، وفي التلويح: والسائبة هي الأنثى من أولاد الأنعام كلها، كان الرجل يسيب لآلهته ما شاء من إبله، وبقره، وغنمه، ولا يسيب إلا أنثى، فظهورها، وأولادها، وأصوافها، وأوبارها للآلهة، وألبانها، ومنافعها للرجال دون النساء، قاله مقاتل، وقيل: هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناثا لم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها، ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها فهي البحيرة بنت السائبة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي أنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن، فإن كان الخامس ذكرا نحروه، وأكله الرجال والنساء جميعا، وإن كانت أنثى شقوا أذنها، وتلك البحيرة لا يجز لها وبر، ولا يذكر عليها اسم الله عز وجل إن ركبت، ولا إن حمل عليها، وحرمت على النساء فلا يذقن من لبنها شيئا، ولا ينتفعن بها، وكان لبنها ومنافعها خاصة للرجال دون النساء حتى تموت، فإذا ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها.

                                                                                                                                                                                  قوله: قال: وقال أبو هريرة، أي: قال سعيد بن المسيب. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، إلى آخره. وهو موصول بالإسناد الأول. قوله: " يجر قصبه "، بضم القاف، وسكون الصاد المهملة، وهي الأمعاء. وقال ابن الأثير: القصب بالضم المعاء، وجمعه أقصاب، وقيل: القصب اسم للأمعاء كلها، وقيل: هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء. قوله: " وكان "، أي: عمرو بن عامر أول من سيب السوائب، وهو جمع سائبة، وروى محمد بن إسحاق بسند صحيح عن محمد بن إبراهيم التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، إنه أول من غير دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، وبحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي ، قال: وحدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق فرآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون، قالوا له: هذه نعبدها، ونستمطر بها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له: هبل، فقدم به مكة فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه، ويقال: كان عمرو بن لحي حين غلبت خزاعة على البيت، ونفت جرهم عن مكة جعلته العرب ربا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس، ويكسو في المواسم فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلة، حتى إنه اللات الذي يلت السويق للحجيج على صخرة معروفة تسمى صخرة اللات، ويقال: إن اللات كان من ثقيف، فلما مات قال لهم عمرو: إنه لم يمت، ولكنه دخل في الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليها بيتا يسمى اللات، ودام أمر عمرو وأمر ولده على هذا بمكة ثلاثمائة سنة، وذكر أبو الوليد الأزرقي في أخبار مكة أن عمرا فقأ عين عشرين بعيرا، وكانوا من بلغت إبله ألفا فقأ عين بعير، وإذا بلغت ألفين فقأ العين الأخرى، قال الراجز:


                                                                                                                                                                                  وكان شكر القوم عند المنن كي الصحيحات وفقأ الأعين

                                                                                                                                                                                  وهو الذي زاد في التلبية إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وذلك أن الشيطان تمثل في صورة شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شريك لك. قال الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر ذلك عمرو بن لحي، فقال: ما هذا؟ فقال: الشيخ تملكه وما ملك، فإنه لا بأس به، فقالها عمرو، فدانت بها العرب.

                                                                                                                                                                                  وأما تفسير الوصيلة في رواية ابن إسحاق فهي الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع ذكرا ذبحوه، وأهدوه للآلهة، وإن كانت أنثى استحيوها، وإن كانت ذكرا وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى، وقالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوهما. وقال مقاتل: وكانت المنفعة للرجال دون النساء، فإن وضعت ميتا اشترك في أكله الرجال، [ ص: 92 ] والنساء، قال الله تعالى: وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وأما الحام فهو الفحل إذا ركب ولد ولده فبلغ ذلك عشرة أو أقل من ذلك. قيل: حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا مرعى، ولا ينحر أبدا إلى أن يموت فتأكله الرجال والنساء.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية