الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3480 180 - حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثني أبي، عن صالح، عن ابن شهاب: أخبرني عبد الحميد أن محمد بن سعد أخبره أن أباه قال: حدثني عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل [ ص: 195 ] عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب، فقال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم قال عمر: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن: نعم؛ أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " والذي نفسي بيده "... إلى آخره.

                                                                                                                                                                                  وأخرج هذا الحديث من طريقين:

                                                                                                                                                                                  أحدهما: عن علي بن عبد الله، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن صالح بن كيسان، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، كان واليا لعمر بن عبد العزيز على الكوفة، يروي عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، وكلهم مدنيون، وفيه أربعة من التابعين على نسق، وهم: صالح وابن شهاب، وهما قريبان، وعبد الحميد ومحمد بن سعد وهما قريبان، وقد مر الحديث بهذا الطريق في باب صفة إبليس وجنوده.

                                                                                                                                                                                  والطريق الآخر: عن عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى الأويسي المدني، عن إبراهيم بن سعد المذكور، عن صالح بن كيسان... إلى آخره.

                                                                                                                                                                                  قوله: " وعنده نسوة من قريش " هن من أزواجه، ويحتمل أن يكون معهن من غيرهن، لكن قرينة كونهن يستكثرنه يؤيد الأول، والمراد أنهن يطلبن منه أكثر مما يعطيهن، كذا قاله بعضهم. وقال النووي: يستكثرنه أي: يطلبن كثيرا من كلامه وجوابه لجوابهن، وفي (التوضيح): يستكثرنه: يردن العطاء، وقد أبان في موضع آخر ذلك أنهن يردن النفقة. وقال الداودي: المراد أنهن يكثرن الكلام عنده. وقال بعضهم: هو مردود بما وقع التصريح به في حديث جابر عند مسلم أنهن يطلبن النفقة.

                                                                                                                                                                                  قلت: الذي قاله النووي أظهر؛ لأن الضمير المنصوب في يستكثرنه يرجع إلى الكلام الذي يدل عليه " يكلمنه "، وثمة قرينة تؤيد هذا، وهو أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يرى بالخطاب لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: " أي عدوات أنفسهن في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم " بل الظاهر أنهن غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جئن لأجل حوائجهن كما قاله النووي، وأكثرن الكلام كما قاله الداودي، ورد كلامه ليس له وجه، ولا يصلح أن يكون حديث جابر مؤيدا لما ذهب إليه هذا القائل؛ لأن حديث سعيد غير حديث جابر، ولئن سلمنا أن يكون معناهما واحدا فلا يلزم من قوله: " يطلبن النفقة " أن تكون تلك النسوة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لاحتمال أن تكون أزواج تلك النسوة غائبين، ولم يكن عندهن شيء فجئن إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وطلبن منه النفقة، وأيضا لفظ النفقة غير مخصوص بنفقة الزوجات على ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: " عالية " بالنصب على الحال، ويجوز بالرفع على أن يكون صفة لنسوة، وأما علو أصواتهن فإما أنه كان قبل نزول قوله تعالى: لا ترفعوا أصواتكم وإما أنه كان باعتبار اجتماع أصواتهن لا أن كلام كل واحدة منهن بانفرادها أعلى من صوته صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فبادرن " أي: أسرعن.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أضحك الله سنك " لم يرد به الدعاء بكثرة الضحك، بل أراد لازمه، وهو السرور والفرح.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يهبنني " بفتح الهاء، أي: يوقرنني، ولا يوقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أفظ وأغلظ " من الفظاظة والغلاظة، وهما من أفعل التفضيل، وهو يقتضي الشركة في أصل الفعل.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): كيف ذاك في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟

                                                                                                                                                                                  قلت: باعتبار القدر الذي في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من إغلاظه على الكفار وعلى المنتهكين لحرمات الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): يعارض هذا قوله تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك

                                                                                                                                                                                  قلت: الذي في الآية يقتضي أن لا يكون ذلك صفة لازمة فلا يستلزم ما في الحديث ذلك، بل يوجد ذلك عند الإنكار على الكفار كما ذكرناه. وقال بعضهم: وجوز بعضهم أن يكون الأفظ هنا بمعنى الفظ، وفيه نظر للتصريح بالترجيح المقتضي لكون أفعل على بابه.

                                                                                                                                                                                  قلت: أراد بالبعض الكرماني؛ فإنه قال هكذا، وليس بمحل للنظر فيه؛ لأن هذا الباب واسع في كلام العرب.

                                                                                                                                                                                  قوله: " إيها " بكسر الهمزة، وسكون الياء آخر الحروف، وبالهاء المفتوحة المنونة، ويروى إيه بكسر الهمزة، وكسر الهاء [ ص: 196 ] المنونة، والفرق بينهما أن معنى الأول لا تبتدئنا بحديث، ومعنى الثاني: زدنا حديثا ما، وفيه لغة أخرى وهي: إيه بكسر الهمزة، والهاء بغير تنوين، ومعناه: زدنا مما عهدنا، وقال الجوهري: إيه يعني بكسر الهمزة والهاء بغير تنوين اسم يسمى به الفعل؛ لأن معناه الأمر، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل: إيه بكسر الهاء، وقال ابن السكيت: فإن وصلت نونت فقلت: إيه حديثا، وقال الجوهري أيضا: وإن أردت التبعيد قلت: أيها بفتح الهمزة بمعنى هيهات، وقال ابن الأثير: إيه كلمة يراد بها الاستزادة، وهي مبنية على الكسر، فإذا وصلت نونت فقلت: إيه حديثا، وإذا قلت: إيها بالنصب، فإنما يراد بها نأمره بالسكوت، وقال الطيبي: الأمر بتوقير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مطلوب لذاته تحمد الزيادة منه، فكأن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: إيه: استزادة منه في طلب توقيره، وتعظيم جانبه؛ فلذلك عقبه بقوله: والذي نفسي بيده... إلى آخره، فإنه يشعر بأنه رضي مقالته، وحمد فعاله.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فجا " أي: طريقا واسعا.

                                                                                                                                                                                  وفيه فضيلة عظيمة لعمر رضي الله تعالى عنه؛ لأن هذا الكلام يقتضي أن لا سبيل للشيطان عليه إلا أن ذلك لا يقتضي وجوب العصمة؛ إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان من أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، هكذا قرره بعضهم.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا موضع التأمل؛ لأن عدم سلوكه الطريق الذي يسلك فيه عمر رضي الله تعالى عنه إنما كان لأجل خوفه لا لأجل معنى آخر، والدليل عليه ما رواه الطبراني في (الأوسط) من حديث حفصة بلفظ: إن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا خر لوجهه. انتهى. فالذي يكون حاله مع عمر هكذا كيف لا يمنع من الوصول إليه لأجل الوسوسة، وتمكن الشيطان من وسوسة بني آدم ما هو إلا بأنه يجري في عروق بني آدم مثلما يجري الدم، فالذي يهرب منه ويخر على وجهه إذا رآه كيف يجد طريقا إليه، وما ذاك إلا خاصة له وضعها الله فيه فضلا منه وكرما، وبهذا لا ندعي العصمة؛ لأنها من خواص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية