الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              2086 147 \ 2001 - وعن أم حبيبة : أنها كانت عند ابن جحش فهلك عنها، وكان فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، فزوجها النجاشي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عندهم .

                                                              وأخرجه النسائي بنحوه .

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: هذا هو المعروف المعلوم عند أهل العلم، أن الذي زوج أم حبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم هو النجاشي في أرض الحبشة، وأمهرها من عنده، وزوجها الأول التي كانت معه في الحبشة هو عبيد الله بن جحش بن رئاب ، أخو زينب بنت جحش زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنصر بأرض الحبشة، ومات بها نصرانيا، فتزوج امرأته رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ ص: 430 ] وفي اسمها قولان: أحدهما: رملة، وهو الأشهر، والثاني. هند.

                                                              وتزويج النجاشي لها حقيقة، فإنه كان مسلما، وهو أمير البلد وسلطانه. وقد تأوله بعض المتكلفين على أنه ساق المهر من عنده، فأضيف التزويج إليه. وتأوله بعضهم على أنه كان هو الخاطب، والذي ولي العقد عثمان بن عفان، وقيل: عمرو بن أمية الضمري.

                                                              والصحيح أن عمرو بن أمية كان وكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، بعث به النجاشي يزوجه إياها، وقيل: الذي ولي العقد عليها خالد بن سعيد بن العاص، ابن عم أبيها.

                                                              وقد روى مسلم في "الصحيح" من حديث عكرمة بن عمار، [عن أبي زميل]، عن ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله، ثلاث أعطنيهن قال: نعم: قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها ؟ قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك. قال: نعم، قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين ؟ قال: نعم " .

                                                              وقد رد هذا الحديث جماعة من الحفاظ، وعدوه من الأغلاط في كتاب مسلم، قال ابن حزم: هذا حديث موضوع لا شك في وضعه، والآفة فيه من عكرمة بن عمار، فإنه لم يختلف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها قبل الفتح بدهر وأبوها كافر.

                                                              [ ص: 431 ] وقال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب "الكشف" له: "هذا الحديث وهم من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار راويه، وقد ضعف أحاديثه يحيى بن سعيد ، وقال: ليست بصحاح، وكذلك قال أحمد بن حنبل: هي أحاديث ضعاف، وكذلك لم يخرج عنه البخاري، إنما أخرج عنه مسلم لقول يحيى بن معين: ثقة.

                                                              قال: وإنما قلنا إن هذا وهم، لأن أهل التاريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر، وثبتت أم حبيبة على دينها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوجه إياها، وأصدقها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف درهم، وذلك سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة فدخل عليها، فثنت بساط رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس عليه.

                                                              ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان، ولا يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا سفيان.

                                                              [ ص: 432 ] وقد تكلف أقوام تأويلات فاسدة لتصحيح الحديث؛ كقول بعضهم: إنه سأله تجديد النكاح عليها!

                                                              وقول بعضهم: إنه ظن أن النكاح بغير إذنه وتزويجه غير تام، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه إياها نكاحا تاما، فسلم له النبي صلى الله عليه وسلم حاله، وطيب قلبه بإجابته !

                                                              وقول بعضهم: إنه ظن أن التخيير كان طلاقا، فسأل رجعتها وابتداء النكاح عليها !

                                                              وقول بعضهم: إنه استشعر كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لها وأراد بلفظ التزويج استدامة نكاحها لا ابتداءه!

                                                              وقول بعضهم يحتمل أن يكون وقع طلاق فسأل تجديد النكاح !

                                                              وقول بعضهم: يحتمل أن يكون أبو سفيان قال ذلك قبل إسلامه، كالمشترط له في إسلامه، ويكون التقدير: ثلاث إن أسلمت تعطينهن ! وعلى هذا اعتمدالمحب الطبري في جواباته للمسائل الواردة عليه، وطول في تقريره.

                                                              وقال بعضهم: إنما سأله أن يزوجه ابنته الأخرى، وهي أختها، وخفي عليه تحريم الجمع بين الأختين لقرب عهده بالإسلام، فقد خفي ذلك على ابنته أم حبيبة، حتى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغلط الراوي في اسمها.

                                                              وهذه التأويلات في غاية الفساد والبطلان، وأئمة الحديث والعلم لا [ ص: 433 ] يرضون بأمثالها، ولا يصححون أغلاط الرواة بمثل هذه الخيالات الفاسدة، والتأويلات الباردة، التي يكفي في العلم بفسادها تصورها، وتأمل الحديث.

                                                              وهذا التأويل الأخير وإن كان في الظاهر أقل فسادا - فهو أكذبها وأبطلها، وصريح الحديث يرده، فإنه قال " أم حبيبة أزوجكها ؟ قال: نعم"، فلو كان المسئول تزويج أختها لما أنعم له بذلك صلى الله عليه وسلم، فالحديث غلط لا ينبغي التردد فيه والله أعلم.




                                                              الخدمات العلمية