الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              وقد تبين بهذا جواب المقام الثاني والثالث. فلنرجع إلى الجواب، عن تمام الوجوه الخمسة عشر، فنقول:

                                                              * وأما تقديمكم للمفهوم من حديث القلتين على القياس الجلي، فمما يخالفكم فيه كثير من الفقهاء والأصوليين، ويقولون: القياس الجلي مقدم عليه، وإذا كانوا يقدمون القياس على العموم الذي هو حجة الاتفاق، فلأن يقدم على المفهوم المختلف في الاحتجاج به أولى.

                                                              ثم لو سلمنا تقديم المفهوم على القياس في صورة ما، فتقديم القياس هاهنا متعين لقوته، ولتأيده بالعمومات، ولسلامته من التناقض اللازم لمن قدم المفهوم، كما سنذكره، ولموافقته لأدلة الشرع الدالة على عدم التحديد بالقلتين. فالمصير إليه أولى لو كان وحده، فكيف بما معه من الأدلة؟

                                                              [ ص: 75 ] وهل يعارض مفهوم واحد لهذه الأدلة من الكتاب، والسنة، والقياس الجلي، واستصحاب الحال، وعمل أكثر الأمة مع اضطراب أصل منطوقه، وعدم براءته من العلة والشذوذ؟

                                                              قالوا: وأما دعواكم أن المفهوم عام في جميع الصور المسكوت عنها، فدعوى لا دليل عليها، فإن الاحتجاج بالمفهوم يرجع إلى حرفين: التخصيص، والتعليل، كما تقدم. ومعلوم أنه إذا ظهر للتخصيص فائدة بدون العموم بقيت دعوى العموم باطلة، لأنها دعوى مجردة، ولا لفظ معنا يدل عليها. وإذا علم ذلك فلا يلزم من انتفاء حكم المنطوق انتفاؤه عن كل فرد من أفراد المسكوت، لجواز أن يكون فيه تفصيل، فينتفي عن بعضها ويثبت لبعضها، ويجوز أن يكون ثابتا لجميعها بشرط ليس في المنطوق، فتكون فائدة التخصيص به الدلالة على ثبوت الحكم له مطلقا، وثبوته للمفهوم بشرط، فيكون المنفي عنه الثبوت المطلق، لا مطلق المثبوت. فمن أين جاء العموم للمفهوم، وهو من عوارض الألفاظ؟

                                                              وعلى هذا عامة المفهومات; فقوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره لا يدل المفهوم على أن بمجرد نكاحها الزوج الثاني تحل له. وكذا قوله: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا : لا يدل على عدم الكتابة عند عدم هذا الشرط مطلقا. وكذا قوله: والذين يبتغون الكتاب . ونظائره أكثر من أن تحصى.

                                                              وكذلك إن سلكت طريقة التعليل لم يلزم العموم أيضا، فإنه يلزم من [ ص: 76 ] انتفاء العلة انتفاء معلولها، ولا يلزم انتفاء الحكم مطلقا، لجواز ثبوته بوصف آخر.

                                                              وإذا ثبت هذا، فمنطوق حديث القلتين لا ننازعكم فيه، ومفهومه لا عموم له. فبطل الاحتجاج به منطوقا ومفهوما.

                                                              وأما قولكم: إن العدد خرج مخرج التحديد والتقييد - كنصب الزكوات - فهذا باطل من وجوه:

                                                              أحدها: أنه لو كان هذا مقدارا فاصلا بين الحلال والحرام، والطاهر والنجس، لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم بيانه بيانا عاما متتابعا تعرفه الأمة، كما بين نصب الزكوات، وعدد الجلد في الحدود، ومقدار ما يستحقه الوارث، فإن هذا أمر يعم الابتلاء به كل الأمة، فكيف لا يبينه، حتى يتفق سؤال سائل له، عن قضية جزئية فيجيبه بهذا، ويكون ذلك حدا عاما للأمة كلها لا يسع أحدا جهله، ولا تتناقله الأمة، ولا يكون شائعا بينهم، بل يحالون فيه على مفهوم ضعيف، شأنه ما ذكرناه، قد خالفته العمومات والأدلة الكثيرة، ولا يعرفه أهل بلدته، ولا أحد منهم يذهب إليه؟

                                                              الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قال: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وقال: وقد فصل لكم ما حرم عليكم فلو كان الماء الذي لم يتغير بالنجاسة: منه ما هو حلال ومنه ما هو حرام، لم يكن في هذا الحديث بيان للأمة ما يتقون، ولا كان قد فصل لهم ما حرم عليهم. فإن المنطوق من حديث القلتين لا [ ص: 77 ] دليل فيه، والمسكوت عنه كثير من أهل العلم يقولون: لا يدل على شيء، فلم يحصل لهم بيان، ولا فصل الحلال من الحرام.

                                                              والآخرون يقولون: لا بد من مخالفة المسكوت للمنطوق، ومعلوم أن مطلق المخالفة لا يستلزم المخالفة المطلقة الثابتة لكل فرد من أفراد المسكوت عنه، فكيف يكون هذا حدا فاصلا؟ فتبين أنه ليس في المنطوق ولا في المسكوت عنه فصل ولا حد.

                                                              الثالث: أن القائلين بالمفهوم إنما قالوا به إذا لم يكن هناك سبب اقتضى التخصيص بالمنطوق، فلو ظهر سبب يقتضي التخصيص به لم يكن المفهوم معتبرا، كقوله ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق : فذكر هذا القيد لحاجة المخاطبين إليه، إذ هو الحامل لهم على قتلهم، لا لاختصاص الحكم به. ونظيره لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ونظائره كثيرة.

                                                              وعلى هذا فيحتمل أن يكون ذكر القلتين وقع في الجواب لحاجة السائل إلى ذلك، ولا يمكن الجزم بدفع هذا الاحتمال. نعم لو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا اللفظ ابتداء من غير سؤال اندفع هذا الاحتمال.

                                                              الرابع: أن حاجة الأمة - حضرها وبدوها، على اختلاف أصنافها - إلى معرفة الفرق بين الطاهر والنجس ضرورية، فكيف يحالون في ذلك على ما [ ص: 78 ] لا سبيل لأكثرهم إلى معرفته؟ فإن الناس لا يكيلون الماء، ولا يكادون يعرفون مقدار القلتين، ولا طولهما، ولا عرضهما، ولا عمقها! فإذا وقعت في الماء نجاسة فما يدريه أنه قلتان؟ وهل تكليف ذلك إلا من باب علم الغيب، وتكليف ما لا يطاق!

                                                              فإن قيل: يستظهر حتى يغلب على ظنه أنه قلتان.

                                                              قيل: ليس هذا شأن الحدود الشرعية، فإنها مضبوطة لا يزاد عليها ولا ينقص منها، كعدد الجلدات، ونصب الزكوات، وعدد الركعات، وسائر الحدود الشرعية.

                                                              الخامس: أن خواص العلماء إلى اليوم لم يستقر لهم قدم على قول واحد في القلتين; فمن قائل: ألف رطل بالعراقي، ومن قائل: ستمائة رطل، ومن قائل: خمسمائة، ومن قائل: أربعمائة.

                                                              وأعجب من هذا: جعل هذا المقدار تحديدا! فإذا كان العلماء قد أشكل عليهم قدر القلتين، واضطربت أقوالهم في ذلك، فما الظن بسائر الأمة ؟ ومعلوم أن الحدود الشرعية لا يكون هذا شأنها.

                                                              السادس: أن المحددين يلزمهم لوازم باطلة شنيعة جدا:

                                                              منها: أن يكون ماء واحد إذا ولغ فيه الكلب ينجس! وإذا بال فيه لم ينجسه!

                                                              ومنها: أن الشعرة من الميتة إذا كانت نجسة فوقعت في قلتين إلا رطلا مثلا أن ينجس الماء، ولو وقع رطل بول في قلتين لم ينجسه! ومعلوم أن [ ص: 79 ] تأثر الماء بهذه النجاسة أضعاف تأثره بالشعرة، فمحال أن يجيء شرع بتنجس الأول وطهارة الثاني.

                                                              وكذلك ميتة كاملة تقع في قلتين لا تنجسها، وشعرة منها تقع في قلتين إلا نصف رطل أو رطلا فتنجسها! إلى غير ذلك من اللوازم التي يدل بطلانها على بطلان ملزوماتها.

                                                              * وأما جعلكم الشيء نصفا ففي غاية الضعف، فإنه شك من ابن جريج. فيا سبحان الله! يكون شكه حدا لازما للأمة، فاصلا بين الحلال والحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته الدين، وتركهم على البيضاء ليلها كنهارها، فيمتنع أن يقدر لأمته حدا لا سبيل لهم إلى معرفته إلا شك حادث بعد عصر الصحابة، يجعل نصفا احتياطا! وهذا بين لمن أنصف.

                                                              والشك الجزئي الواقع من الأمة في طهورهم وصلاتهم قد بين لهم حكمه ليندفع عنهم باليقين، فكيف يجعل شكهم حدا فاصلا فارقا بين الحلال والحرام؟

                                                              ثم جعلكم هذا احتياطا: باطل، لأن الاحتياط يكون في الأعمال التي يترك المكلف منها عملا لآخر احتياطا، وأما الأحكام الشرعية والإخبار، [ ص: 80 ] عن الله ورسوله فطريق الاحتياط فيها أن لا يخبر عنه إلا بما أخبر به، ولا يثبت إلا ما أثبته.

                                                              ثم إن الاحتياط هو في ترك هذا الاحتياط، فإن الرجل تحضره الصلاة وعنده قلة ماء قد وقعت فيها شعرة ميتة، فتركه الوضوء منه مناف للاحتياط.

                                                              فهلا أخذتم بهذا الأصل هنا، وقلتم: ما ثبت تنجيسه بالدليل الشرعي نجسناه، وما شككنا فيه رددناه إلى أصل الطهارة؛ لأن هذا لما كان طاهرا قطعا وقد شككنا هل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنجيسه أم لا، والأصل الطهارة.

                                                              وأيضا: فأنتم لا تبيحون لمن شك في نجاسة الماء أن يعدل إلى التيمم، بل توجبون عليه الوضوء، فكيف تحرمون عليه الوضوء هنا بالشك؟

                                                              وأيضا: فإنكم إذا نجستموه بالشك نجستم ما يصيبه من الثياب والأبدان والآنية، وحرمتم شربه والطبخ به، وأرقتم الأطعمة المتخذة منه. وفي هذا تحريم لأنواع عظيمة من الحلال بمجرد الشك، وهذا مناف لأصول الشريعة. والله أعلم.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية