الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد ، بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقية ، وإنما القدرة الحقيقية لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله ، كما قررناه في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل ، وفي مواضع شتى من ربع المنجيات فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ، ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا .

نعم ، له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال ، وهي وسيلة له إلى كمال العلم ، كسلامة أطرافه ، وقوة يده للبطش ورجله ، للمشي وحواسه ، للإدراك ؛ فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم وقد يحتاج في استيفاء هذه القوى إلى القدرة بالمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن ، وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه ألبتة ، إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالا فقد جهل فالخلق أكثرهم هالكون في غمرة هذا الجهل ؛ فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة ، وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى ، وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه كمال فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ، ولما طلبوه شغلوا به ، وتهالكوا عليه ، فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى ومن ملائكته وهو العلم والحرية ، أما العلم فما ذكرناه من معرفة الله تعالى وأما الحرية فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبها بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ، ولا يستهويهم الغضب فإن دفع آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة .

ومن صفات الكمال ، لله تعالى استحالة التغير والتأثر عليه ، فمن كان عن التغير والتأثر بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب ، وبالملائكة أشبه ، ومنزلته عند الله أعظم .

وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدرة ، وإنما لم نورده في أقسام الكمال ؛ لأن حقيقته ترجع إلى عدم ونقصان ، فإن التغير نقصان ؛ إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها ، والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال .

فإذا : الكمالات ثلاثة إن عددنا عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها كمالا ، ككمال العلم وكمال الحرية وأعني ، به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب ، الدنيوية ، وكمال القدرة للعبد ، طريق إلى اكتساب كمال العلم وكمال الحرية ، ولا طريق له إلى اكتساب كمال القدرة الباقية بعد موته ؛ إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان تنقطع بالموت ، ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت ، بل يبقيان كمالا فيه ووسيلة إلى القرب من الله تعالى .

فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال القدرة بالجاه والمال ، وهو الكمال الذي لا يسلم ، وإن سلم فلا بقاء له وأعرضوا عن كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبديا لا انقطاع له ، وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وهم الذين لم يفهموا قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقى كمالا في النفس والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب ، وهو كما مثله الله تعالى حيث قال : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض الآية ، وقال تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله فأصبح هشيما تذروه الرياح وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا ، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات .

فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له ، وأن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصودا فهو جاهل ، وإليه أشار أبو الطيب بقوله :


ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر

إلا قدر البلغة منهما إلى الكمال الحقيقي اللهم اجعلنا ممن وفقته للخير وهديته بلطفك .

التالي السابق


(وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد، بل للعبد علم حقيقي) بالنسبة إلى غيره من أوصاف الكمال (وليس له قدرة حقيقية، وإنما القدرة الحقيقية لله تعالى) وهو القادر المطلق الذي يخترع كل موجود اختراعا ينفرد به، ويستغني فيه عن معاونة غيره، وأما العبد فله قدرة على الجملة، ولكنها ناقصة؛ إذ لا تتناول إلا بعض الممكنات ولا تصلح للاختراع .

(وما يحدث من الأشياء عقيب قدرته وإرادته وحركته فهي حادثة بإحداث الله تعالى، كما ذكرناه في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل، وفي مواضع شتى من ربع المنجيات) كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى (فكمال العلم يبقى معه بعد الموت، ويوصله إلى الله -عز وجل- فأما كمال القدرة فلا) أي: ليس كذلك (نعم، له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال، وهي وسيلة له إلى كمال العلم، كسلامة أطرافه، وقوة يده للبطش، وقوة رجليه للمشي، و) قوة (حواسه للإدراك؛ فإن هذه القوى آلة له يتوصل بها إلى حقيقة كمال العلم) فيكون كماله بهذه الإضافة .

(وقد يحتاج في استبقاء هذه القوى إلى القدرة بالمال وبالجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن، وذلك إلى قدر معلوم) وحد محدود (فإن لم يستعمله في الوصول إلى معرفة الله فلا خير فيه البتة، إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب) ويمحو أثرها (ومن ظن ذلك كمالا فقد جهل) وأخطأ طريق الصواب .

(والخلق كلهم هالكون في غمرة هذا الجهل؛ فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة، وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى، وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه - كمال) وقد وطنوا أنفسهم بذلك الظن (فلما اعتقدوا ذلك أحبوه) ومالوا إليه (ولما أحبوه طلبوه، ولما طلبوه شغلوا به، وتهالكوا عليه، فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى ومن ملائكته) المقربين عنده (وهو العلم والحرية، أما العلم فما ذكرناه من معرفة الله تعالى) وأنها أشرف المعلومات مطلقا (وأما الحرية فالخلاص من أسر الشهوة وغموم الدنيا) وأحزانها (والاستيلاء عليها بالقهر تشبها بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة، ولا يستهويهم الغضب. فإذا: رفع أثر الغضب والشهوة عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة، ومن صفات الكمال لله سبحانه استحالة التغير والتأثر عليه، فمن كان عن التأثر والتغير بالعوارض أبعد كان إلى الله أقرب، وبالملائكة أشبه، ومنزلته عند الله أعظم) .

وبيانه أن الموجودات كاملة وناقصة، والكامل أشرف من الناقص، ومهما تفاوتت درجات الكمال، واقتصر منتهى الكمال على واحد، حتى لم يكن الكمال المطلق إلا له، ولم يكن للموجودات الأخر كمال مطلق، بل كانت لها كمالات متفاوتة بإضافة - فأكملها أقرب لا محالة إلى الذي له الكمال المطلق .

ثم إن الموجودات إما حية أو ميتة، والحي أشرف وأكمل من الميت، ودرجات الأحياء ثلاث درجات: درجة الملائكة، ودرجة الإنس، ودرجة البهائم؛ فأما درجة البهائم فهي أسفل في نفس الحياة التي بها شرفها، وفي إدراكها نقص.

وأما درجة الملائكة فهي أعلى الدرجات؛ لأنهم مقدسون عن الشهوة والغضب، وداعية إلى أمر أجل من ذلك وهو طلب القرب إلى الله تعالى .

وأما الإنسان فدرجة متوسطة [ ص: 248 ] بينهما، والأغلب عليه في بداية أمره البهيمية إلى أن يشرق عليه بالآخر نور العقل، المتصرف في ملكوت السموات والأرض، ويظهر فيه الرغبة في طلب الكمال، فيعصي مقتضى الغضب والشهوة حتى يضعفا عن تحريكه وتسكينه، فيأخذ بذلك شبها من الملائكة، وكذلك إن فطم نفسه عن الجمود والخيالات، وأنس بالإدراك أخذ شبها آخر من الملائكة، فإن خاصية الحياة الإدراك والعقل وإليهما يتطرق النقص والتوسط والكمال، ومهما اقتدى بالملائكة في هاتين الخاصيتين كان أبعد من البهيمية وأقرب من الملائكة، والملك قريب من الله تعالى، والقريب من القريب قريب .

(وهذا) أي: كونه أبعد عن التغير والتأثر (كمال ثابت سوى كمال العلم والقدرة، وإنما لم نورده في أقسام الكمال؛ لأن حقيقته ترجع إلى عدم ونقصان، فإن التغير نقصان؛ إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها، والهلاك نقص في الذات ونقص في صفات الكمال) للذات (فإذا: الكمالات ثلاثة إن عددنا عدم التغير بالشهوات) وعدم التأثر بها (وعدم الانقياد لها كمالا، ككمال العلم وكمال الحرية، ونعني به عدم العبودية للشهوات، والإرادة للأسباب الدنيوية، وكمال القدرة، وللعبد طريق إلى اكتساب كمال العلم وكمال الحرية، ولا طريق له إلى اكتساب طريق القدرة الباقية بعد موته؛ إذ قدرته على أعيان الأموال) بالملك والتصرف (وعلى استسخار القلوب) بحسن الاعتقاد (والأبدان) بالقهر أو بالإحسان (تنقطع بالموت، ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت، بل يبقيان كمالا فيه ووسيلة إلى القرب من الله تعالى، فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان) الذين سلبوا أبصارهم (فأقبلوا على طلب كمال القدرة بالجاه والمال، وهو الكمال الذي لا يسلم، وإن سلم فلا بقاء له) بل ينعدم قريبا .

(وأعرضوا عن كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبديا) ثابتا (لا انقطاع له، وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) أي: لا ينظر إليهم نظر رحمة، أو لا ينظر إليهم أصلا لحقارتهم (وهم الذين لم يفقهوا) وفي نسخة: لم يفهموا (قول الله تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا) وخير أملا .

(فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقى كمالا في النفس) تهيئها للقرب من الملأ الأعلى (والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب، وهو كما مثل الله تعالى حيث قال: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض الآية، وقال تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا) كماء أنزلناه من السماء (إلى قوله) : فأصبح هشيما أي: يابسا متحطما ( تذروه الرياح فكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات، فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال كمال ظني) وهمي (لا أصل له، وأن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصودا فهو جاهل، وإليه أشار أبو الطيب) أحمد بن الحسين المتنبي (بقوله:

ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر )

(إلا قدر البلغة منها إلى الكمال الحقيقي) فإنه مقصود لكن بالذات، والله أعلم .




الخدمات العلمية