الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : ) وإذا قالت البكر : لم أرض حين بلغني وادعى الزوج رضاها فالقول قولها عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى : القول قول الزوج ; لأنه متمسك بما هو الأصل [ ص: 5 ] وهو السكوت والمرأة تدعي عارضا وهو الرد فيكون القول قول من يتمسك بالأصل كالمشروط له الخيار مع صاحبه إذا اختلفا بعد مضي المدة فادعى المشروط له الخيار الرد وأنكره صاحبه فالقول قوله ; لتمسكه بالأصل وهو السكوت .

وكذلك الشفيع مع المشتري إذا اختلفا فقال الشفيع : علمت بالبيع أمس فطلبت الشفعة ، وقال المشتري : بل سكت فالقول قول المشتري ; لتمسكه بما هو الأصل ولكنا نقول : الزوج يدعي ملك بضعها وهذا ملك حادث ، وهي تنكر ثبوت ملكه عليها فكانت هي المتمسكة بالأصل فكان القول قولها كما لو ادعى أصل العقد وأنكرت هي ، وهذا ; لأن ما قاله زفر رحمه الله تعالى نوع ظاهر ، والظاهر يكفي لدفع الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق ، وحاجة الزوج هنا إلى إثبات الاستحقاق .

وفي الحقيقة المسألة تنبني على مسألة أخرى ، وهو أنه إذا قال لعبده : إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر فمضى اليوم وقال العبد : لم أدخل وقال المولى : قد دخلت عند زفر رحمه الله تعالى القول قول العبد ; لتمسكه بما هو الأصل وعندنا القول قول المولى ; لأن حاجة العبد إلى إثبات الاستحقاق ، والظاهر لهذا لا يكفي ; ولأن عدم الدخول شرط للعتق ولا يكتفى بثبوت الشرط بطريق الظاهر فكذا هنا رضاها شرط ; لثبوت النكاح والظاهر لا يكفي ; لذلك فأما الشفيع إذا قال : طلبت الشفعة حين علمت فالقول قوله وإن قال : علمت أمس وطلبت الآن فالقول قول المشتري ; لأن حاجة المشتري إلى دفع استحقاق الشفيع ، والظاهر يكفي للدفع .

وكذلك في باب البيع فإن سبب لزوم العقد وهو مضي مدة الخيار قد ظهر فحاجة الآخر إلى دفع استحقاق مدعي الفسخ ، والظاهر يكفي لذلك ، فإن أقام الزوج البينة على سكوتها ثبت النكاح وإلا فلا نكاح بينهما ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تستحلف فإن نكلت قضي عليها بالنكاح .

وأصل المسألة أن عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يستحلف في ستة أشياء : في النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والنسب والولاءوعندهما يستحلف في ذلك كله فيقضى بالنكول وقد ذكر في الدعوى فصلا شائعا إذا ادعت الأمة على مولاها أنها أسقطت سقطا مستبين الخلق وصارت أم ولد له بذلك ، وحجتهما في ذلك أن هذه الحقوق تثبت مع الشبهات فيجوز القضاء فيها بالنكول كالأموال ، وهذا ; لأن النكول قائم مقام الإقرار ، ولكن فيه نوع شبهة ; لأنه سكوت والسكوت محتمل فإنما يثبت به ما يثبت مع الشبهات ، ولهذا لا يثبت القصاص [ ص: 6 ] بالنكول ; لأنه يندرئ بالشبهات ، وإنما يثبت بالنكول ما يثبت بالإبدال من الحجج نحو كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة .

وهذه الحقوق تثبت بذلك فكذلك بالنكول ; لأنه بدل عن الإقرار وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هذه الحقوق لا يجزي فيها البدل فلا يقضى فيها بالنكول كالقصاص في النفس ، وبيان الوصف ظاهر فإن المرأة لو قالت لا نكاح بيني وبينك ، ولكن بذلت لك نفسي لا يعمل بذلها وكذلك لو قال : لست بابن لك ولا مولى ولكن أبذل لك نفسي أو قال : أنا حر الأصل ولكن أبذل لك نفسي ; لتسترقني لا يعمل بذله أصلا .

بخلاف المال فإنه لو قال : هذا المال ليس لك ، ولكن أبذله لك ; لأتخلص من خصومتك كان بذله صحيحا ، وتأثيره أن النكول بمنزلة البذل لا بمنزلة الإقرار فإنا لو جعلناه بذلا يتوصل المدعي إلى حقه مع بقاء المدعى عليه محقا في إنكاره وإذا جعلناه إقرارا يجعل المدعى عليه مبطلا في إنكاره وذلك لا يجوز إلا بحجة ; ولأن النكول سكوت فهو إلى ترك المنازعة أقرب منه إلى الإقرار فإنما يثبت به أدنى ما يثبت بترك المنازعة وهو البذل ، فرق أبو حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا وبين القصاص في النفس فإن هناك يستحلف وإن كان لا يقضى بالنكول ; لأن اليمين في النفس مقصودة ; لعظم أمر الدم ألا ترى أن الأيمان في القسامة شرعت مكررة وفي هذه المسائل اليمين ليست بحق له مقصودا وإنما المقصود منه القضاء بالنكول فإذا لم يجز القضاء بالنكول لا حاجة إلى الاستحلاف ; لكونه غير مفيد وبأن كان يثبت بالإبدال من الحجج فذلك لا يدل على أنه يستحلف فيه كتصديق المقذوف القاذف يثبت بالإبدال من الحجج ولا يجري فيه الاستحلاف

التالي السابق


الخدمات العلمية