الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإن كانا كفيلين عن رجل بمائة درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بها ثم إن أحد الكفيلين صالح الآخر على عشرة دراهم على أن أبرأه ثم صالح الطالب الذي قبض العشرة على خمسة دراهم وأداها إليه فإنه يرد تسعة ونصفا على الكفيل الذي معه ثم يرجعان جميعا على الأصيل بخمسة ; لأن المؤدي للعشرة إنما أداها إلى صاحبها على أن يؤدي عنه العشرة وهو ما أدى إلى الطالب مما كفل عنه إلا درهمين ونصفا ; لأنه أدى إليه خمسة - وهي شائعة في النصفين - نصف ذلك مما هو فيه متحمل عن صاحبه فعرفنا أنه أدى إلى الطالب مما تحمل عن صاحبه درهمين ونصفا . وصاحبه إنما برئ مما بقي بإبراء الطالب ; لأن عند اتحاد الجنس يتعدد تصحيح الصلح بطريق المبادلة فلهذا رجع المؤدي للعشرة على صاحبه بسبعة ونصف . ثم كل واحد منهما يؤدي عن الأصيل درهمين ونصفا حكما فيرجعان عليه بالخمسة كذلك . ولو لم يكن هكذا ، ولكن الذي عليه الأصل صالح أحد الكفيلين على عشرة دراهم ودفعها إليه ; فهو جائز بطريق الإسقاط لما وراء العشرة مما استوجب الرجوع به عليه عند الأداء . فإن أدى الكفيل الذي أخذ العشرة إلى الطالب المائة درهم لم يرجع على الأصيل ولا على صاحبه بشيء ، وقد صالح الأصيل على ما أخذ منه من العشرة وصار مبرئا له عما زاد على ذلك فلا يرجع عليه بشيء عند الأداء . والكفيل معه إنما استفاد البراءة ببراءة الأصيل لا بأدائه ; لأن براءة الأصيل على أي وجه تكون تتضمن براءة الكفيل .

ولو أدى الكفيل الآخر المائة كان له أن يرجع على الكفيل الذي معه بخمسين درهما وعلى الأصيل بمثل ذلك ; لأنه صار مؤديا عن الكفيل الذي معه مقدار الخمسين . ولو لم يجر بين الكفيل الآخر وبين الأصيل صلح ; كان لهذا المؤدي أن يرجع على الكفيل الآخر بما أدى عنه بالكفالة وهو مقدار الخمسين فبعد صلحه أولى وقد كان كفيلا عن الأصيل بالخمسين الأخرى وأداها عنه ثم يرجع الأصيل على الكفيل الذي صالحه بخمسة دراهم ; لأنه كان صالحه على عشرة دراهم ونصف ذلك مما كان هو الذي كفل به عنه ونصفه مما كفل به صاحبه على أن يكون هو المؤدي عنه . فإذا لم يفعل كان له أن يرجع عليه بنصف تلك العشرة وهو خمسة وتسليم الخمسة الأخرى للمصالح ; لأن الكفيل الآخر لما رجع عليه بخمسين ; كان له أن يرجع بذلك على الأصيل لولا صلحه معه على هذه الخمسة وإبراؤه إياه [ ص: 64 ] عما زاد عليها إلى تمام الخمسين ولو صالح الأصيل الكفيلين جميعا على عشرة دراهم من جميع الكفالة فهو جائز . وأيهما أدى بالكفالة المائة إلى الطالب فإنه لا يرجع على الأصيل بشيء إلا بخمسة ; لأن كل واحد منهما بالصلح قد أبرأه عما زاد على الخمسة إلى تمام ما كفل عنه ، ولو أبرأه عن ذلك بعد الأداء سقط حقه في الرجوع عليه فكذلك قبل الأداء ، وإن شاء رجع على صاحبه بالخمسة التي قبضها من الأصيل ; لأنه إنما كان قبض تلك الخمسة ليؤدي إلى الطالب ما تحمل عن الأصيل ولم يؤد شيئا ، وإنما أداه الآخر فيكون هو أحق بتلك الخمسة ، يقبضها منه ولا يتبعان بشيء لما بينا أو المراد بقوله : لا يرجع المؤدي على الأصيل إلا بخمسة سوى الخمسة التي قبضها صاحبه في الكفالة ; لأن المؤدي أدى تلك الخمسة بحكم الكفالة عن الأصيل وهو ما أبرأه منها فيرجع بها على الأصيل إن شاء ثم يرجع بها الأصيل على القابض منه ، وإن شاء رجع بها على صاحبه لما بينا ، وإن لم يؤد واحد من الكفيلين المال ولكن أدى الأصيل ; رجع على الكفيلين بعشرة دراهم بعينها ; لأنهما استوفيا العشرة منه ليؤديا عنه ما تحملا من الدين ولم يوجد ذلك حين أدى هو المال بنفسه ; فكان له أن يرجع عليهما بتلك العشرة ولا يرجع بما زاد على ذلك ; لأن رجوعه عليهما بحكم استيفائهما منه لا بحكم إسقاطهما عنه .

ولو صالحهما على ثوب ودفعه إليهما ثم إنه أدى المائة إلى الطالب ; رجع على كل واحد منهما بقبض نصف الثوب منه في حكم المستوفي الخمسين بطريق المبادلة وإنما استوفى على أن يؤدي عنه حق الطالب .

فإذا لم يفعل ولكن أداها صاحبه وقد كان كفيلا عنه بها كان له أن يرجع بتلك الخمسين عليه وإن شاء رجع بها على الأصيل ; لأنه يتحمل تلك الخمسين عن الأصيل وقد أداها فإن رجع بها على الأصيل رجع بها الأصيل على الكفيل الذي لم يؤد شيئا إلا أن يشاء الكفيل أن يرد عليه نصف الثوب الذي صالحه عليه ; لأنه استوفاها عنه ليؤديها عنه فإذا لم يفعل حتى أدى هو بنفسه إلى الكفيل المؤدي عنه ; كان ذلك بمنزلة أدائه إلى الطالب فيرجع بها على الذي لم يؤد شيئا إذ الذي لم يؤد شيئا صار مستوفيا بطريق التجوز بدون الحق فيتخير لذلك .

ولو لم يؤد مائة درهم ولكنه أدى عشرة دراهم فصالحه عليها الطالب ; فإنه لا يرجع على شريكه في الكفالة بخمسة دراهم ولكن الأصيل يرجع على الكفيل المؤدي للعشرة إلى الطالب بأربعين درهما وعلى الكفيل الآخر بخمسين ; لأن كل واحد منهما بقبض نصف الثوب منه صار قابضا للخمسين على أن يؤدي عنه ذلك إلى الطالب ولم يفعل ذلك الذي [ ص: 65 ] لم يؤد إلى الطالب شيئا وإنما برئ هو عن تلك الخمسين بإبراء الطالب إياه ، فكان للأصيل أن يرجع عليه بتلك الخمسين إلا أن يشاء هو رد نصف الثوب عليه .

والمؤدي للعشرة كان في حكم القابض للخمسين منه أيضا على أن يؤدي ذلك عنه وإنما أدى إليه عشرة فما زاد على العشرة إنما برئ الأصيل عنه بإبراء الطالب فيكون له أن يرجع على المؤدي للعشرة بقدر الأربعين لذلك . ولا رجوع للمؤدي للعشرة على شريكه بنصف العشرة ; لأنه قد استوفى من الأصيل هذه العشرة وزيادة فكيف يرجع بشيء منها على شريكه ؟ ولو لم يؤد شيئا ولكن الأصيل صالح الطالب على عشرة دراهم فإنه يرجع على كل واحد من الكفيلين بخمسين درهما إلا أن يشاء رد الثوب عليه ; لأن كل واحد منهما في حكم المستوفي للخمسين منه ولكن بطريق التجوز بدون الحق .

ولو كان الأصيل صالح الكفيلين على عشرة دراهم وكان أحد الكفيلين صالح الطالب على أربعة دراهم فإنه لا يرجع على صاحب الدرهمين اللذين أدى عنه لما بينا أنه قبض ذلك من الأصيل وزيادة ولكن يرد درهما على الأصيل ; لأنه قبض من الأصيل خمسة وما أدى عنه إلى الطالب إلا أربعة فإنما برئ عما زاد على الأربعة بإبراء الطالب ويرد صاحبه خمسة دراهم على الأصيل ; لأن صاحبه استوفى من الأصيل خمسة دراهم ، ولم يؤد عنه شيئا وإنما برئ هو من حصة صاحبه بإبراء الطالب ولو كان الأصيل صالحهما على ثوب ثم إن أحدهما صالح الطالب على دراهم على أن أبرأه من جميع المال ; لم يرجع على شريكه بشيء ; لأنه إنما أدى إلى الطالب درهما ، وقد صار مستوفيا من الأصيل مقدار الخمسين بالصلح على الثوب فلهذا لا يرجع على شريكه بشيء ولكن المصالح مع الطالب يرد على الأصيل تسعة وأربعين درهما ، وصاحبه يرد على الأصيل خمسين درهما ; لأن كل واحد منهما صار مستوفيا للخمسين درهما من الأصيل على أن يستفيد الأصيل البراءة من حق الطالب بأدائهما ولم يوجد ذلك ، فالذي صالح الطالب على الدراهم إنما أدى عنه الدراهم فقط فيرد عليه ما زاد على ذلك إلى تمام الخمسين والآخر لم يؤد عنه شيئا إلى الطالب فيرد عليه ما صار مستوفيا منه وذلك خمسون درهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية