الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو كان الدين ألف درهم وبه كفيلان كل واحد منهما ضامن عن صاحبه فصالح أحد الكفيلين صاحبه على مائة درهم على أن يبرئه من حصته من الكفالة وقبضها منه ثم إن الكفيل الذي قبض المائة أدى المال كله إلى الطالب ; رجع على المكفول عنه بتسعمائة ولم يرجع على الكفيل معه بشيء ويرجع المؤدي للمائة على المكفول عنه بالمائة ; لأن كل واحد منهما كفيل عن الأصيل بجميع المال وعن صاحبه بنصف المال ، صلح الكفيل مع الأصيل قبل أدائه إلى الطالب صحيح كما يجوز صلحه مع الطالب فإذا صالح أحدهما صاحبه على مائة ; فقد صار مبرئا له عما زاد على المائة مما استوجب الرجوع عليه وهو كان كفيلا عن الأصيل وإبراء الكفيل لا يوجب براءة الأصيل فإذا أدى القابض للمائة جميع الألف ; فإنما أدى عن الأصيل تسعمائة فيستوجب الرجوع بها عليه ويصير مؤديا عن الكفيل معه مقدار ما كفل عنه وذلك مائة درهم فيرجع المؤدي للمائة على الأصيل بتلك المائة ; لأن أداء كفيله عنه كأدائه بنفسه . ولو لم يكن هكذا ولكن الطالب أخذ الكفيل الذي أدى المائة واستوفى منه الألف كلها فله أن يرجع على شريكه بتسعمائة ; لأنه دفع إليه المائة على أن يؤديها عنه إلى الطالب فإذا لم يفعل حتى أداها بنفسه كان له أن يرجع عليه بتلك المائة ، وقد كان كفل عنه خمسمائة وأداها ; فله أن يرجع عليه بتلك الخمسمائة أيضا .

ولو كان الكفيل صالح صاحبه على كر حنطة ودفعه إليه على أن أبرأه من حصته من الكفالة ; فهذا جائز فيما بينهما ; لأنه كفل بالخمسمائة وما أدى إليه يصلح أن يكون عوضا عن الخمسمائة ويكون هذا التصرف منهما غير جائز في حق الطالب ; فله أن يأخذ بجميع المال أيهما شاء . فإن أخذ الطالب الكفيل الذي أدى بالألف فأداها فإنه يرجع بها تامة على الكفيل الذي معه وبخمسمائة مع ذلك على الذي عليه الأصل إن شاء إلا أن يشاء الكفيل القابض للطعام أن يرد عليه الطعام ، ويرد عليه خمسمائة مع ذلك ; لأن المؤدي للألف استوجب الرجوع على شريكه في الكفالة بنصف ما أدى وهو خمسمائة ; لأنه تحمل ذلك عنه بأمره ، وبالنصف الآخر ; لأنه دفع إليه الطعام على أن يؤدي عنه ما يقابله وهو خمسمائة إلى الطالب فإذا [ ص: 61 ] لم يفعل حتى أدى بنفسه كان له أن يرجع عليه بتلك الخمسمائة أيضا إلا أن القابض للطعام قبضه بطريق الصلح على أن يبرئ المؤدي من رجوعه عليه لا على أن يرجع المؤدي عليه بخمسمائة . فإذا آل الأمر إلى ذلك خير ; لأن مبنى الصلح على التجوز بدون الحق فإن شاء نقض الصلح ورد عليه الطعام ، وإن شاء أمسك الطعام ورد عليه عوضه وهو خمسمائة ، وإن شاء المؤدي للألف رجع بخمسمائة على الأصيل ; لأنه أداها عنه بعد ما تحملها بأمره ، ورجع بخمسمائة على الكفيل الذي قبض الطعام إلا أن يشاء الكفيل أن يرد عليه الطعام لما بينا .

( وحاصل فقه هذه المسألة ) أن الخمسمائة التي هي عوض عن الطعام لا يستوجب المؤدي الرجوع بها على الأصيل ; لأنه صار مملكا إياها من المؤدي للطعام ، فيكون رجوعه بذلك على القابض للطعام خاصة إلا أن يشاء القابض للطعام أن يرد عليه الطعام ; لأنه قبضه منه على سبيل الحط والإغماض ولو صالح أحد الكفيلين صاحبه على عشرة دنانير ودفعها إليه على أن أبرأه من حصته من الكفالة ثم إن الطالب صالح الكفيل الذي قبض الدنانير على تلك الدنانير بأعيانها عن جميع المال وأداها إليه ; كان جائزا ; لأنه ملك الدنانير وتم ملكه فيما قبضه من صاحبه فالتحق تعيينها من دنانيره في جواز الصلح مع الطالب عليها من جميع المال ، ويكون هذا الصلح تمليكا منه لانعدام معنى الربا عند اختلاف الجنس ثم يكون للكفيل الذي صالح الطالب أن يرجع على الأصيل بخمسمائة درهم ، ويرجع الكفيل الآخر على الأصيل بخمسمائة أيضا ; لأن الذي صالح الطالب قد يملك جميع الألف بهذا الصلح ، بمنزلة ما لو أدى إليه جميع الألف وكان له أن يرجع على شريكه بخمسمائة لولا صلحه معه ، وقد صح صلحه معه عن الخمسمائة على الدنانير فيجعل ذلك الصلح بينهما كأنه كان بعد إذنه فيتقرر كل واحد منهما في الرجوع عن الأصيل بخمسمائة ; لأن أداء الكفيل المصالح الأول عنه كأدائه بنفسه . وأيهما أخذ شيئا من الأصيل شاركه فيه صاحبه ; لأن الدين الذي في ذمة الأصيل مشترك بينهما . وما يقبض أحد الشريكين من دين مشترك بينهما شاركه فيه صاحبه . ولو لم يكن هكذا ولكن أحد الكفيلين أدى المال كله إلى الطالب ثم صالح الكفيل معه على مائة درهم على أن أبرأه أو على عشرة دنانير على أن أبرأه وقبض ذلك ; فهو جائز ; لأنه بالأداء استوجب الرجوع على شريكه في الكفالة بخمسمائة .

والصلح من الخمسمائة على مائة درهم أو على عشرة دنانير جائز . وهما يتبعان الأصيل بالألف تامة ; لأنهما صارا مؤديين عنه جميع الألف فإن كان الصلح بينهما على الدنانير ; فالألف بينهما [ ص: 62 ] نصفان ; لأن مؤدي الدنانير يصير متملكا للخمسمائة بما أدى فالصلح يصح بطريق التمليك إذا أمكن .

والإمكان موجود عند اختلاف الجنس فيكون رجوع كل واحد منهما على الأصيل بخمسمائة بمنزلة ما لو أدى صاحبه خمسمائة ، وإن جرى الصلح بينهما على مائة درهم ; فالألف بينهما على عشرة أسهم ; لأن صحة الصلح عنهما هنا بطريق الإسقاط فإن مبادلة الخمسمائة بالمائة ربا فالمؤدي للمائة لا يأخذ إلا مقدارها . وإبراء مؤدي الألف صاحبه عما زاد على المائة لا يكون إبراء الأصيل فيكون له أن يرجع على الأصيل بتسعمائة وللآخر أن يرجع عليه بالمائة فإذا اقتضاه شيئا منها يكون المقبوض بينهما على مقدار حقهما اعتبارا . ولو صالحه على عرض أو حيوان كان مثل الصلح على الدنانير ; لأن تصحيحه بطريق التمليك ممكن . والصلح قبل الأداء وبعد الأداء جائز ; لأن الدين يجب للكفيل عن الأصيل بالكفالة كما يجب للطالب على الكفيل بعين في حق المطالبة .

( ألا ترى ) أن الكفيل يطالب الأصيل بحسب ما تعامله الطالب مع الكفيل ويجوز صلح الكفيل مع الأصيل قبل الأداء وبعده وإذا كان الدين طعاما قرضا أو غصبا فصالح أحد الكفيلين صاحبه على دراهم مسماة على أن أبرأه من خصومته ; فهو مثل الباب الأول ، لما بينا أن تصحيح هذا الصلح بينهما بطريق المبادلة ممكن فإن أدى الذي قبض الدراهم والطعام كله ; كان لهما أن يتبعا الأصيل بذلك نصفين ; لأن المؤدي للدراهم كان أصيلا في حق صاحبه .

وأداء كفيله كأدائه بنفسه . وقد تم ملكه في حصته من الطعام بما أدى من الدراهم إلى صاحبه فيرجع على الأصيل بذلك والمؤدي للطعام كفيل عن الأصيل بالطعام وقد أدى فيرجع عليه بما لم يصل إليه عوضه من صاحبه وذلك نصف الطعام فلهذا رجعنا عليه بالطعام نصفين ، وإن أدى الطعام الذي دفع الدراهم اتبع صاحب الأصل بالجميع ; لأنه كان كفيلا عنه بجميع الطعام وقد أدى فيرجع على الكفيل الذي قبض الدراهم بنصف ما أدى الطعام ; لأنه دفع إليه الدراهم عوضا عن نصف الطعام الذي كان كفل به عنه ليؤديه إلى الطالب ولم يفعل فيرجع عليه بذلك إلا أن يشاء القابض للدراهم أن يرد الدراهم ; لأنه قبضها بطريق الصلح ومبنى الصلح على التجوز بدون الحق فإذا آل الأمر إلى أن يلزمه رد نصف الطعام ويكمله عليه ; كان له أن يلتزم هذا الضرر ويرد عليه المقبوض من الدراهم إن شاء ، وإن شاء الكفيل الذي أدى الطعام اتبع صاحبه في الكفالة بجميع الطعام ليؤديه عنه إلى الطالب فإذا لم يفعل حتى أدى بنفسه كان له أن يرجع عليه بذلك أيضا إلا أن يشاء القابض للطعام [ ص: 63 ] أن يرد عليه دراهمه مكان نصف الطعام فحينئذ يكون له ذلك فيدفع إليه دراهمه مع نصف الطعام فالمقبوض منه يكون مشتركا بينهما على قدر حقيهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية