الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله ، وكان المال مسهلا لها وآلة إليها عظم الخطر ، فيما يزيد على قدر الكفاية فاستعاذ الأنبياء من شره ، حتى قال نبينا صلى الله عليه وسلم : اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا فلم يطلب من الدنيا إلا ما يتمحض خيره ، وقال اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين .

واستعاذ إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فقال واجنبني وبني أن نعبد الأصنام وعنى بها هذين الحجرين : الذهب ، والفضة إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى عليها أن تعتقد الإلهية في شيء من هذه الحجارة ; إذ قد كفي قبل النبوة عبادتها مع الصغر ، وإنما معنى عبادتهما حبهما والاغترار بهما ، والركون إليهما قال نبينا صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم ، تعس ولا انتعش وإذا شيك فلا انتقش .

فبين أن محبهما عابد لهما ، ومن عبد حجرا فهو عابد صنم ، بل كل من كان عبدا لغير الله ، فهو عابد صنم أي من قطعه ذلك عن الله تعالى وعن أداء حقه فهو كعابد صنم وهو شرك ، إلا أن الشرك شركان : شرك خفي لا يوجب الخلود في النار ، وقلما ينفك عنه المؤمنون ، فإنه أخفى من دبيب النمل وشرك جلي يوجب الخلود في النار نعوذ بالله من الجميع .

التالي السابق


(ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع [ ص: 152 ] الشهوات القاطعة لسبيل الله، وكان المال مسهلا لها) لتلك الشهوات (وآلة إليها أعظم الخطر، فيما يزيد على قدر الكفاية) ، والحاجة (فاستعاذ الأنبياء) - عليهم السلام - (من شره، حتى قال نبينا صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا) القوت ما يسد به الرمق، سمي به لحصول القوة والكفاف ما لا يفضل من الشيء، ويكون بقدر الحاجة، والمراد بآل محمد زوجاته، ومن في نفقته، أو مؤمنو بني هاشم، وأتقياء أمته، والحمل على الأعم أتم .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة. انتهى .

قلت: الذي في المتفق عليه: اللهم ارزق آل محمد قوتا.

وعند مسلم وحده: اللهم ارزق آل محمد كفافا.

وعنده أيضا، وكذلك أحمد، والترمذي، وابن ماجه: اللهم اجعل رزق آل محمد في الدنيا قوتا، وفي لفظ: كفافا، والمعنى: اجعل رزقهم بلغة تسد رمقهم، وتمسك قوتهم بحيث لا ترهقهم الفاقة، ولا تذلهم المسألة، ولا يكون فيه تغول يصل إلى ترفه وتبسط ليسلموا من آفات الغنى والفقر، (فلم يطلب) لهم (من الدنيا إلا ما يتمحض خيره، وقال) صلى الله عليه وسلم أيضا: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة) .

رواه الترمذي في الزهد من جامعه، والبيهقي في الشعب من طريق ثابت بن محمد، حدثنا الحارث بن النعمان، عن أنس رفعه باللفظ المذكور، وفيه زيادة، فقالت عائشة: يا رسول الله، قال: إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، ورواه ابن ماجه إلى قوله: زمرة المساكين من طريق عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد، قال: أحبوا المساكين، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه، وذكره، ورواه الطبراني في الدعاء بدون قول أبي سعيد، وبلفظ: وتوفني، وفي لفظ عنده: اللهم توفني إليك فقيرا، ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة.

وأخرجه الحاكم، وصححه بزيادة: وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة، وقد تقدم الكلام عليه .

(واستعاذ إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فقال) الله تعالى في كتابه حكاية عنه: ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) اعلم أن الناض الذي هو العين والورق حجر جعله الله تعالى سببا للتعامل به كما تقدم ذكره، وخادم كما ذكره، فقبيح بالحر المترشح لنيل الفضائل، والاقتداء بالبار جل ثناؤه، والوصول إلى الغنى الأكبر أن يتهافت بأكثر مما يحتاج إليه، ويجعل نفسه أقل رقيق وأخسه، فبرق ذوي الأطماع برق خلب، ويكون معتكفا فيه على حجر يعبده على ما قال: يعكفون على أصنام لهم (و) إنما (عنى) إبراهيم - عليه السلام - (به) ، أي: بقوله المذكور في سؤاله من ربه أن يجنبه وبنيه عبادة (هذين الحجرين: الذهب، والفضة) ، والمراد بهما الأعراض الدنيوية الصارفة عن الله؛ (إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى عليها أن يعتقد) هو وبنوه (الإلهية) ، واستحقاق العبادة (في شيء من هذه الحجارة; إذ قد كفي قبل النبوة عبادتها مع الصغر، وإنما معنى عبادته حبه والاغترار به، والركون إليه) .

وقد قال في موضع آخر إشارة إلى ما يعم هذا المعنى، وغيره: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئا .

(قال نبينا صلى الله عليه وسلم) في ذم من يجعل جاهه، وبدنه، ونفسه خادما للمال، وعبدا: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) ، قال في المصباح: تعس تعسا من باب نفع: أكب على وجهه، وعثر، وقيل: لزمه الشر، وهو تاعس، وتعس من باب تعب لغة، فهو تعس مثل تعب، وفي الدعاء: تعسا له، وتعس وانتكس، فالتعس أن يخر لوجهه، والنكس أن لا يستقل بعد سقطه حتى يسقط ثانية، وهي أشد من الأولى (تعس ولا انتعش) يقال: انتعش العاثر نهض من عثرته، ونعشه الله وأنعشه أفاقه (وإذا شيك) ، أي: أصاب رجله الشوك (فلا انتعش) ، أي: لا أخرج الله منه ذلك، يقال: نقشت الشوكة نقشا، وانتقشتها إذا استخرجتها بالمنقاش .

قال العراقي: رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وأبو يعلى، ولم يقل: ولا انتقش، وإنما علق آخره بلفظ: تعس وانتكس، ووصل ذلك ابن ماجه والحاكم. انتهى .

قلت: رواه البخاري من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا، وفي لفظ للعسكري من طريق الحسن، عن أبي هريرة مرفوعا: لعن بدل تعس، وسياق حديث ابن ماجه بعد قوله: الدرهم، وعبد الحلة، وعبد الخميصة; إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه... الحديث، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير للبخاري أيضا، وتقدم للمصنف في كتاب النكاح:

[ ص: 153 ] تعس عبد الزوجة تبعا لصاحب القوت، وقد ذكر العراقي هناك أنه لم يجد له أصلا (فبين أن محبها عبد لها، ومن عبد حجرا فهو عابد صنم، بل كل من كان عبدا لغير الله، فهو عابد صنم) ، أي: إن الغير يكون في حقه بمنزلة الصنم الذي يعبده المشركون وأخبث حالا منه الذي يتقرب إلى الأعراض بما يتقرب به إلى الله تعالى كأسمائه تعالى، وآيات كتابه إذا اتخذت ذريعة لتحصيل الدنيا، وكونه أخبث حالا من المشركين; لأن المشركين ادعوا أنهم يعبدون الحجارة لتقربهم إلى الله زلفى، وهؤلاء يلازمون الأسماء والدعوات لتقربهم إلى الدنيا زلفى، ولا يخفى قبحه (وهو شرك، إلا أن الشرك شركان: شرك خفي لا يوجب الخلود في النار، وقلما ينفك عنه المؤمنون، فإنه أخفى من دبيب النمل) في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كما ورد في الخبر: الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا.

رواه الحكيم من حديث ابن عباس، ورواه البزار من حديث عائشة بسند ضعيف، وروى هناد بن السري، والحكيم، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن السني في عمل يوم وليلة من حديث أبي بكر بسند حسن: الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره... الحديث .

(وشرك جلي يوجب الخلود في النار) ، وهو عدم الإيمان بالله ورسله، نعوذ بالله من ذلك.



الخدمات العلمية