الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما .

طلب الدنيا حلالا فأصابها ، فوصل بها رحمه ، وقدم لنفسه .

وأما الآخر .

فإنه جانبها فلم يطلبها ، ولم يتناولها ، فأيهما أفضل ? قال :

بعيد والله ما بينهما ، الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها .

ويحك ! فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها ، ولك في العاجل إن تركت الاشتغال بالمال وإن ذلك أروح لبدنك وأقل لتعبك ، وأنعم لعيشك ، وأرضى لبالك وأقل لهمومك .

فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر ؟! نعم ، وشغلك بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله ، فاجتمع لك راحة العاجل مع السلامة والفضل في الآجل وبعد .

فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك الله به وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا .

ويحك ! تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا فسر مع لواء المصطفى سابقا إلى جنة المأوى .

فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء ، وإذا استقرض لم يجد قرضا ، وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه ولم يقدر على أن يكتسب ما يغنيه ، يمسي مع ذلك ويصبح ، راضيا عن ربه ، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر والفضل تجمعه ، لا ، ولكنك خوفا من الفقر تجمعه وللنعيم ، والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه ، ثم تزعم أنك لأعمال البر تجمع المال ، ويحك ! راقب الله واستحي ، من دعواك أيها المغرور .

ويحك ! إن كنت مفتونا بحب المال والدنيا فكن مقرا أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة ومجانبة الفضول نعم ، وكن عند جمع المال مزريا على نفسك ، معترفا بإساءتك ، وجلا من الحساب ؛ فذلك أنجى لك ، وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال .

إخواني ! اعلموا أن دهر الصحابة كان الحلال فيه موجودا ، وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم ونحن في دهر الحلال فيه مفقود ، وكيف لنا من الحلال مبلغ القوت وستر العورة .

فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه .

. وبعد فأين لنا بمثل تقوى الصحابة وورعهم ، ومثل زهدهم واحتياطهم ، وأين لنا مثل ضمائرهم وحسن نياتهم ، دهينا ورب السماء بأدواء النفوس وأهوائها ، وعن قريب يكون الورود ، فيا سعادة المخفين يوم النشور ، وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط وقد نصحت لكم إن قبلتم والقابلون لهذا قليل .

وفقنا الله وإياكم لكل خير برحمته آمين .

، هذا آخر كلامه وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى ، ولا مزيد عليه .

ويشهد لذلك جميع الأخبار التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا وفي كتاب الفقر والزهد .

ويشهد له أيضا ما روي عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، قال : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، قال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا قال : يا ثعلبة أما لك في أسوة ؟! أما ترضى أن تكون مثل نبي الله تعالى ؟! أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت ، قال : والذي بعثك بالحق نبيا لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه ولأفعلن ولأفعلن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالا ، فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة ويدع ما سواهما ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الجماعة إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، فقال : ما فعل ثعلبة بن حاطب ؟ فقيل : يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة وأخبر بأمره كله فقال : يا ويح ثعلبة ! يا ويح ثعلبة ! يا ويح ثعلبة ! قال وأنزل الله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم .

وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم على الصدقة وكتب لهما كتابا بأخذ الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين ، وقال : مرا بثعلبة بن حاطب ، وبفلان : رجل من بني سليم ، وخذا صدقاتهما ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذه إلا جزية ؟! ما هذه إلا جزية ؟! ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي ، فانطلقا نحو السليمي فسمع بهما فقام إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما بها ، فلما رأوها قالوا : لا يجب عليك ذلك وما نريد نأخذ هذا منك قال : بلى ، خذوها ، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة ، فسألاه الصدقة ، فقال : أروني كتابكما ، فنظر فيه ، فقال : هذه أخت الجزية ، انطلقا حتى أرى رأيي ، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة ! قبل أن يكلماه ، ودعا للسليمي فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، وبالذي صنع السليمي فأنزل الله تعالى في ثعلبة ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ما أنزل الله فيه ، فخرج حتى أتى ثعلبة فقال : لا أم لك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك ، فجعل يحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عملك أمرتك فلم تطعني ، فلما أبى أن يقبل منه شيئا رجع إلى منزله ، فلما قبض رسول صلى الله عليه وسلم جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وجاء بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وتوفي ثعلبة بعد في خلافة عثمان .

فهذا طغيان المال وشؤمه ، وقد عرفته من هذا الحديث .

التالي السابق


(وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما طلب الدنيا حلالا فأصابها، فوصل بها رحمه، وقدم لنفسه، وأما الآخر فإنه جانبها فلم يطلبها، ولم يبذلها، فأيهما أفضل؟ قال: بعيد والله ما بينهما، الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها) رواه صاحب القوت عن الحسن.

(ويحك! فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها، ولك في العاجل إن تركت الاشتغال بالمال أن ذلك أروح لبدنك) أي: أكثر راحة له (وأقل لتعبك، وأنعم لعيشك، وأرضى لبالك) أي: لسرك (وأقل لهمومك، فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر؟! نعم، وشغلك بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله، فاجتمع لك راحة العاجل) أي: الدنيا (مع السلامة والفضل في الآجل) أي: الآخرة .

(وبعد، فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى) أي: تقتدي (بنبيك) صلى الله عليه وسلم (إذ هداك الله به) من الضلالة (وترضى بما اختار) هو (لنفسه من مجانبة الدنيا) وأعراضها، والقناعة منها بالكفاف والبلغة (ويحك! تدبر ما سمعت) ترشد (وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا) والإعراض عنها (فسر مع لواء المصطفى) صلى الله عليه وسلم (سابقا إلى جنة المأوى؛ فإنه بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "سادات المؤمنين في الجنة) أي: رؤساؤهم فيها (من إذا تغدى لم يجد عشاء، وإذا استقرض لم يجد قرضا، وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه، ولا يقدر على أن يكتسب ما يغنيه، يمسي مع ذلك ويصبح، راضيا عن ربه، فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا") قال العراقي: عزاه صاحب مسند الفردوس للطبراني من رواية أبي حازم، عن أبي هريرة، مختصرا، بلفظ: "سادة الفقراء في الجنة" الحديث، ولم أره في معاجيم الطبراني اهـ .

قلت: ولعله في مكارم الأخلاق له .

(ألا يا أخي فمتى جمعت هذا المال من بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر والفضل تجمعه، لا، ولكنك خوفا من الفقر تجمعه، وللتنعم والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه، ثم تزعم أنك لأعمال البر تجمع المال، ويحك! راقب الله، واستح من دعواك أيها المغرور، ويحك! إن كنت مفتونا بحب المال والدنيا فكن مقرا) في نفسك (أن الخير والفضل في الرضا بالبلغة) من العيش (ومجانبة الفضول) وتقديمها بين يديك .

(نعم، وكن عند جمع المال مزريا على نفسك، معترفا بإساءتك، وجلا من الحساب؛ فذلك أنجى لك، وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج) والأدلة (لجمع المال .

إخواني! اعلموا أن دهر الصحابة كان الحلال فيه موجودا، وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم) كما هو معروف لمن سبر سيرتهم (ونحن في دهر الحلال فيه مفقود، وكيف لنا من الحلال بمبلغ القوت وستر العورة) وكن يواري (فأما جمع المال في دهرنا [ ص: 225 ] فأعاذنا الله وإياكم من ذلك .

وبعد فأين لنا مثل تقوى الصحابة وورعهم، ومثل زهدهم واحتياطهم، وأين لنا مثل ضمائرهم وحسن نياتهم، دهينا ورب السماء) جل وعز (بأدواء النفوس) وأمراضها (وأهوائها، وعن قريب يكون الورود، فيا سعادة المخفين) في حملهم (يوم النشور، وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط) في الأموال (وقد نصحت لكم إن قبلتم) نصحي (والقابلون لهذا قليل؛ لأن الدنيا استهوتهم وأسرتهم) فلا يكادون يقبلون (وفقنا الله وإياكم لكل خير برحمته، هذا آخر كلامه) أي: كلام الحارث بن أسد المحاسبي، رحمه الله تعالى .

(وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى، ولا مزيد عليه، ويشهد لذلك) أيضا (جميع الأخبار) الواردة (التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا) وقد سبق (وفي كتاب الفقر والزهد) كما سيأتي .

(ويشهد له أيضا ما روي عن أبي أمامة) صدي بن عجلان (الباهلي) رضي الله عنه (أن ثعلبة بن حاطب) وهما رجلان من الصحابة:

أحدهما: ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، ذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق في البدريين، وكذا ذكره ابن الكلبي، وزاد أنه قتل بأحد .

والثاني: ثعلبة بن حاطب أو أبي حاطب الأنصاري، ذكره ابن إسحاق فيمن بنى مسجد الضرار (قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، قال: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، قال) ثم أتاه فقال: (يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال: يا ثعلبة أما لك بي أسوة؟! أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟! أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت، قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه ولأفعلن ولأفعلن) يعني: من صنائع المعروف والبر من التصدق وغيره .

(قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اللهم ارزق ثعلبة مالا، فاتخذ عنما فنمت) أي: زادت وبورك في نسلها (كما ينمو الدود) إشارة إلى الكثرة، فإن الدود يتوالد كثيرا (فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها) بغنمه (فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة) مع النبي -صلى الله عليه وسلم- (ويدع ما سواهما) لبعد الموضع (ثم نمت وكثرت فتنحى) إلى واد آخر أبعد من الأول (حتى ترك الصلوات في الجماعة إلا الجمعة، وهي تنمو) وتكثر (كما ينمو الدود) ببركة دعوته -صلى الله عليه وسلم- فاشتغل بها (حتى ترك الجمعة) أي: حضورها في مسجد الجماعة لبعد المسافة أو الأشغال (وطفق يلقى الركبان) المارين عليه (يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة، وسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه، فقال: ما فعل ثعلبة بن حاطب؟ فقيل: يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة) فخرج إلى الأودية (وأخبر بأمره كله) وفي رواية: فأخبروه بخبره .

(فقال: يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة!) ثلاث مرات (قال) الراوي: (وأنزل الله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم على) قبض (الصدقة) من أرباب المواشي (وكتب لهم كتابا) بين فيه أسنان الإبل والغنم (وأمرهما أن يخرجا فيأخذا الصدقة من المسلمين، وقال لهما: مرا بثعلبة بن حاطب، وبفلان: رجل من بني سليم، وخذا صدقاتهما، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية: قال: أروني كتابكما فنظر فيه .

(فقال: ما هذه [ ص: 226 ] الأجزية؟! ما هذه الأجزية؟! ما هذه إلا أخت الجزية) وفي رواية: أخية الجزية (انطلقا حتى تفرغا) من شأنكما (ثم تعودا إلي، فانطلقا نحو السليمي) وهو الرجل الذي من بني سليم (فسمع بهما فقام إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأياها قالا: لا يجب عليك هذا) فإنه من خيار الأسنان (وما نريد أن نأخذ هذا منك) وإنما نأخذ من وسط الأسنان (قال: بلى، خذوها، نفسي بها طيبة) منشرحة (وإنما هي لتأخذوها) وفي نسخة: وإنما هي لنا خذوها (فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة، فسألاه الصدقة، فقال: أروني كتابكما، فنظر فيه، فقال: هذه أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا حتى أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة! قبل أن يكلماه، ودعا للسليمي) بالبركة .

(فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، وبالذي صنع السليمي فأنزل الله في ثعلبة) هذه الآيات ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وعند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من أقارب ثعلبة فسمع ما أنزل الله فيه، فخرج حتى أتى ثعلبة فقال: لا أم لك يا ثعلبة) هلكت (قد أنزل الله فيك كذا وكذا) وتلا عليه (فخرج ثعلبة حتى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله أن يقبل صدقته فقال: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثو التراب على رأسه) ويبكي (فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا عملك) قد (أمرتك فلم تطعني، فلما أبى أن يقبل منه شيئا رجع إلى منزله، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم- جاء بها إلى أبي بكر الصديق) فقال: يا أبا بكر قد عرفت منزلتي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وموضعي، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قد سخط علي فاقبل أنت صدقتي (فأبى أن يقبلها منه) حتى قبض (وجاء بها إلى عمر بن الخطاب) فقال: يا أمير المؤمنين اقبل أنت صدقتي (فأبى أن يقبلها) منه، وقال: لم يقبلها منك رسول الله، ولا أبو بكر، فكيف أقبلها أنا؟! فقبض عمر وتولى عثمان (وتوفي بعد خلافة عمر) في أيام عثمان.


(فهذا طغيان المال وشؤمه، وقد عرفته من هذا الحديث) ولفظ القوت: وإن في قصة ثعلبة بن حاطب عبرة لأولي الألباب، الذين كشف عن قلوبهم الحجاب، فقير من فقراء الصفة الصالحين الأنصار ومن المهاجرين أخرجه حب الدنيا إلى النفاق، وأدخله في العناد والشقاق، وغضب الله ورسوله عليه، فلم يقبل توبته، ولا رحم عبرته، ولا أقال عثرته، وكان سبب ذلك حب الدنيا وإيثار الغنى على الفقر، نذكره ليعتبر معتبر، ويزدجر مزدجر .

رواه علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب، فذكر نحو سياق المصنف، وقال في آخره: فقد وتر ثعلبة المسكين بغناه، فأهلك بطغواه، واستدرج بماله، فسقط به عن مقامه وحاله بماله، فحمله البخل وإيثار الكثرة والجمع على منع الصدقة، وظلم أهلها، وترك إخراج حق الله تعالى منها، فعجز عن الفرض بعد أن كان ادعى القوة والنهوض بالفضل .

وما كان ينقص من المال لو أخرج من كل مائة شاة شاة، وهو عشر العشر، إذا كثرت غنمه؟! وأن يخرج من خمسين ناقة حقة من الإبل، ومن أربعين بنت لبون، وذلك خمس العشر إذا كثرت إبله، وربع العشر، وكان فيه رضا ربه، وطهرة نفسه، وزكاة ماله، ولا يتبين نقصه من مزيد ماله، ولكن حضر شح نفسه، وغاب يقين آخرته، فأطاع الحاضر لفقد الغائب، وكان أمله قلة العناية، وعدم الوقاية، فلم يوجد الفلاح، وفقد الصلاح، ووجد البخل، وظهر الخلف، وبان الكذب، وعزب الصدق .

ينتظم ما ذكرنا قوله تعالى: وأحضرت الأنفس الشح وقوله: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون وقوله: لنصدقن ولنكونن من الصالحين مع قوله بخلوا به إلى قوله: بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون فأعقبه ذلك النفاق إلى يوم التلاق، وجعل بابه حب الدنيا، ومفتاح الطلب لها، والحرص عليها، فحقت عليه الثلاث المهلكات، فاعتبروا يا أولي الألباب! إلى هنا كلام صاحب القوت .

ولنرجع إلى تخريج هذه القصة:

قال العراقي: الحديث بطوله رواه الطبراني بسند ضعيف، انتهى .

قلت: رواه أيضا البغوي [ ص: 227 ] والباوردي وابن شاهين وابن السكن وابن قانع، كلهم في الصحابة، والديلمي وغيرهم، كلهم في ترجمة ثعلبة بن حاطب بن عمرو الأوسي البدري من طريق معاذ بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب، وساقوا القصة نحو سياق المصنف .

قال الحافظ في الإصابة: وفي كون صاحب القصة إن صح الخبر -ولا أظنه يصح- هو البدري المذكور نظر، وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول ابن الكلبي: إن البدري استشهد بأحد، ويقوي ذلك أيضا أن ابن مردويه روى في تفسيره من طريق عطية عن ابن عباس في الآية المذكورة قال: وذلك أن رجلا يقال له ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار أتى مجلسا فأشهدهم فقال: لئن أتاني الله من فضله، الآية، فذكر القصة بطولها .

فقال: إنه ثعلبة بن أبي حاطب، والبدري اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية" وحكى عن ربه أنه قال لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا في قلبه، وينزل به ما نزل؟! فالظاهر أنه غيره، والله أعلم .




الخدمات العلمية