الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والقائلين بأن التقوى هو الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها ، وجدهم خير خلق الله وأعلاهم رتبة في البصيرة والمعرفة والعقل ، وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء ، واتبعهم عليه الخلق على أصنافهم وشذ منهم آحاد من البطالين غلبت عليهم الشهوة ، ومالت نفوسهم إلى التمتع فعظم عليهم ترك الشهوات وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار فجحدوا الآخرة وكذبوا الأنبياء فكما أن قول الصبي وقول السوادي لا يزيل طمأنينة القلب إلى ما اتفق عليه الأطباء ، فكذلك قول هذا الغني الذي استرقته الشهوات لا يشكك في صحة أقوال الأنبياء والأولياء والعلماء .

وهذا القدر من الإيمان كاف لجملة الخلق ، وهو يقين جازم يستحث على العمل لا محالة ، والغرور يزول به .

وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء ولا تظنن أن معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الآخرة ولأمور ، الدين تقليد لجبريل عليه السلام بالسماع منه ، كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه وسلم ، حتى تكون معرفتك مثل معرفته ، وإنما يختلف المقلد فقط ، وهيهات فإن التقليد ليس بمعرفة ، بل هو اعتقاد صحيح والأنبياء عارفون ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها فشاهدوها بالبصيرة الباطنة ، كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر فيخبرون عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد .

وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح ، وأنه من أمر الله تعالى ، وليس المراد بكونه من أمر الله الأمر الذي يقابل النهي ; لأن ذلك الأمر كلام ، والروح ليس بكلام ، وليس المراد بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط ; لأن ذلك عام في جميع المخلوقات .

بل العالم عالمان : عالم الأمر ، وعالم الخلق . ولله الخلق والأمر فالأجسام ذوات الكمية والمقادير من عالم الأمر الخلق إذا ; الخلق عبارة عن التقدير في وضع اللسان وكل موجود منزه عن الكمية والمقدار فإنه من عالم الأمر وشرح ذلك سر الروح ، ولا رخصة في ذكره لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كسر القدر الذي منع من إفشائه .

فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه ، وإذا عرف نفسه وربه عرف أنه أمر رباني بطبعه وفطرته ، وأنه في العالم الجسماني غريب ، وأن هبوطه إليه لم يكن بمقتضى طبعه في ذاته ، بل بأمر عارض غريب من ذاته وذلك العارض الغريب ورد على آدم صلى الله عليه وسلم ، وعبر عنه بالمعصية ، وهي التي حطته عن الجنة التي هي أليق به بمقتضى ذاته فإنها في جوار الرب تعالى ، وأنه أمر رباني ، وحنينه إلى جواب الرب تعالى له طبعي ذاتي إلا أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته ، فينسى عند ذلك نفسه وربه .

ومهما فعل ذلك فقد ظلم نفسه ، إذ قيل له : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون أي : الخارجون عن مقتضى طبعهم ، ومظنة استحقاقهم .

يقال : فسقت الرطبة عن كمامها ، إذا خرجت عن معدنها الفطري .

وهذه إشارة إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العارفون وتشمئز من سماع ألفاظها القاصرون فإنها تضر بهم

كما تضر رياح الورد بالجعل

وتبهر أعينهم الضعيفة كما تبهر الشمس أبصار الخفافيش .

وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى معرفة وولاية ويسمى صاحبه وليا وعارفا ، وهي مبادئ مقامات الأنبياء .

وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء ولنرجع إلى الغرض المطلوب فالمقصود ، أن غرور الشيطان بأن الآخرة شك يدفع إما بيقين تقليدي وأما ببصيرة ومشاهدة من جهة الباطن .

التالي السابق


(والقائلين بأن التقوى هو الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها، وجدهم خير خلق الله) ، وخلاصتهم، (وأعلاهم رتبة في البصيرة والمعرفة والعقل، وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء، واتبعهم عليهم الخلق على أصنافهم) حينا بعد حين، (وشذ منهم آحاد من الباطلين) الذين قد (غلبت عليهم الشهوة، ومالت نفوسهم إلى التمتع) بالأعراض الفانية (فعظم عليهم ترك الشهوات) ، وقد ألفوا بها، (وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار) استنكافا منهم، (فجحدوا الآخرة) رأسا، (وكذبوا الأنبياء) والرسل عليهم السلام، ولم يصغوا لأقوال العلماء .

(وكما أن قول الصبي) والمعتوه (وقول السوادي لا يزيل طمأنينة القلب إلى ما اتفق عليه الأطباء، فكذلك قول هذا الغبي) الفدم (الذي استرقته الشهوات) ، وغلب عليه حب اللذات، (لا يشكك في صحة أقوال الأنبياء والأولياء والعلماء، وهذا القدر من الإيمان كاف لجملة الخلق، وهو يقين جازم يستحث على العمل، والغرور يزول به .

وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء) خاصة (والإلهام) لهم (وللأولياء) ، وقد تقدم ذكر مراتب الوحي وأقسامه، وما خص بها كل من الأنبياء والأولياء (ولا تظنن أن معرفة النبي لأمر الآخرة، ولأمر الدين) فيما يوحى إليه (تقليد لجبريل عليه السلام بالسماع منه، كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى تكون معرفتك مثل معرفته، وإنما [ ص: 433 ] يختلف المقلد) بفتح اللام (فقط، وهيهات) هيهات، (فإن التقليد ليس بمعرفة، بل هو اعتقاد صحيح) في اتباعه غيره من غير نظر وتأمل في دليل، (والأنبياء) عليهم السلام (عارفون) لا مقلدون، (ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها) عند الله تعالى، (فشاهدوها بالبصيرة الباطنة، كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر فيخبرون) ما أخبروا (عن مشاهدة) صحيحة (لا عن سماع وتقليد) للغير، (وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح، وأنه من أمر الله، وليس المراد بكونه من الله الأمر الذي يقابل النهي; لأن ذلك الأمر كله كلام، والروح ليس بكلام، وليس المراد بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط; لأن ذلك عام في جميع المخلوقات، بل العالم عالمان: عالم الأمر، وعالم الخلق. ولله الخلق والأمر) كما قال تعالى: ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين فعالم الأمر ما وجد عن الحق من غير سبب، ويطلق بإزاء الملكوت، وعالم الخلق ما وجد عن سبب، ويطلق بإزاء عالم الشهادة، (فالأجسام ذوات الكمية والمقادير من عالم الخلق; إذ الخلق عبارة عن التقدير) المستقيم (في وضع اللسان) ، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا اقتداء، (وكل موجود منزه عن الكمية والمقدار فإنه من عالم الأمر) ، والكمية منسوب إلى كم، وهو العرض الذي يقتضي الانقسام لذاته، (وشرح ذلك سر الروح، ولا رخصة في ذكره لاستضرار أكثر الخلق بسماعه) ، وحيث أمسك صلى الله عليه وسلم عن الإخبار عنه، وعن ماهيته بإذن الله ووحيه، وهو صلى الله عليه وسلم معدن العلم، وينبوع الحكمة كيف يسوغ لغيره الخوض فيه والإشارة إليه، لا جرم لما تقاضت النفس الإنسانية المتطلعة إلى الفضول المتشرفة إلى المعقول المتحركة بوضعها إلى كل ما أمرت بالسكوت فيه، والمتسورة بحرصها إلى كل تحقيق وكل تمويه فأطلقت عنان النظر في مسارح الفكر، وخاضت غمرات ماهية الروح تاهت في التيه، وتنوعت آراؤها فيه، ولو لزمت النفوس حدها معترفة بعجزها، كان ذلك أجدر بها وأولى، وذلك (كسر القدر الذي منع من إفشائه) والخوض في مشكلاته، (فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه عرف ربه، وإذا عرف نفسه وربه عرف أنه أمر رباني بطبعه وفطرته، وأنه في العالم الجسماني غريب، وأن هبوطه إليه لم يكن بمقتضى طبعه في ذاته، بل بأمر عارض غريب من ذاته) ، وتحقيقه أن الروح الإنساني العلوي السماوي من عالم الأمر، والروح الحيواني البشري من عالم الخلق، والروح الحيواني البشري محل الروح العلوي ومورده، ولورود الروح الإنساني العلوي تجنس الروح الحيواني، وباين أرواح الحيوانات، واكتسب صفة أخرى فصار نفسا محلا للنطق والإلهام، فتكونت النفس بتكوين الله تعالى من الروح العلوي في عالم الأمر كتكوين حواء من آدم في عالم الخلق، وصار بينهما التألف والتعاشق كما بين آدم وحواء، فسكن الروح الآدمي الإنساني العلوي إلى الروح الحيواني وصيره نفسا، وتكون من سكون الروح إلى النفس القلب، والمراد به اللطيفة التي محلها المضغة اللحمية فالمضغة اللحمية من عالم الخلق، وهذه اللطيفة من عالم الأمر، وكان تكون القلب من الروح والنفس في عالم الأمر كتكون الذرية من آدم وحواء في عالم الخلق، (وذلك العارض الغريب ورد على آدم عليه السلام، وعبر عنه بالمعصية، وهي التي حطته من الجنة التي هي أليق به بمقتضى ذاته فإنها في جوار الرب تعالى، وأنه أمر رباني، وحنينه إلى جوار الرب تعالى طبيعي ذاتي إلا أن تصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب عن ذاته، فينسى عند ذلك نفسه وربه، ومهما فعل ذلك فقد ظلم نفسه، إذ قيل له: ولا تكونوا كالذين نسوا الله) أي: تركوا معرفته، ولم يذكروه (فأنساهم أنفسهم) أي: جعلهم ناسين لها فلم يعرفوها، ففيه أن نسيان النفس من ثمرات نسيان الرب، كما أن نسيان النفس يورث نسيان الرب، والمطلوب معرفتهما جميعا فتضمحل النفس ويبقى الرب، أو المعنى أنهم لما نسوا الله أراهم من أهوال الحجاب ما أنساهم أنفسهم أي: حجبهم عن [ ص: 434 ] نور المعرفة بالظلمة المتراكمة على القلوب (أولئك هم الفاسقون أي: الخارجون عن مقتضى طبعهم، ومظنة استحقاقهم) ، وهذا معنى صحيح مطابق لوضع اللغة (يقال: فسقت الرطبة من كمامها، إذا خرجت من معدنها الفطري) ، ولفظ الصحاح من قشرها، (وهذه إشارة إلى أسرار) مخزونة (تهتز) أي: تتحرك طربا (لاستنشاق روائحها) الطيبة بآنافهم (العارفون) الكاملون، (وتشمئز) أي: تنقبض (لسماع ألفاظها) الغريبة (القاصرون) عن درجة المعرفة; (فإنها) أي: تلك الروائح الذكية (تضر بهم) فيحيدون عنها، (

كما تضر رياح الورد بالجعل )

بضم الجيم وفتح العين المهملة: حيوان شبه الخنفساء تدحرج العذرة برجليها، وتشمها بآنافها، ومن شأنها إذا شمت الرائحة الطيبة حصلت لها حالة مثل السبات، وربما تهلك، وهو نصف مصراع بيت .

(وتبهر أعينهم الضعيفة) أي: تغلبها (كما تبهر الشمس أبصار الخفافيش) جمع خفاش، وهو حيوان معروف لا يقدر أن يفتح عينه في مقابلة الشمس، ولا يستطيع النظر إلى النور (وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى معرفة وولاية) ، وبه يقوم العبد بالحق عند الفناء عن نفسه، (ويسمى صاحبه وليا وعارفا، وهي مبادئ مقامات الأنبياء) ، ثم يترقون إلى معاريج الكمال، (وآخر مقامات الأولياء) الذي ينتهون إليه في سيرهم (أول مقامات الأنبياء) ، وقول أبي يزيد البسطامي قدس سره: خضت بحرا وقف الأنبياء بساحله إشارة إلى الولاية الخاصة، (ولنرجع إلى الغرض المطلوب، والمقصود أن غرور الشيطان بأن الآخرة شك يدفع إما بيقين تقليدي) ، يسلم الأمر إلى المقلد له، ولا يفاتحه ببرهان ولا دليل، (وإما ببصيرة) نافذة، (ومشاهدة) حاصلة (من جهة الباطن) .




الخدمات العلمية