الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة

فمن الحوادث فيها:

أنه في بكرة الخميس غرة المحرم دخل إلى البلد تتامش الذي كان قد خرج مع قيماز من بغداد وخرج أهل البلد للنظر إليه ونزل تحت التاج فقبل الأرض مرارا وأذن له في الدخول إلى داره وعفي عنه وأمر وكرم .

[وبعد صلاة العصر يومئذ تقدم إلي بالجلوس تحت منظرة باب بدر واجتمع الخلق وتاب جماعة وحضر أمير المؤمنين . ثم تقدم إلي بالجلوس هناك يوم عاشوراء وكان الناس يجيئون من نصف الليل بالأضواء فما طلع الفجر ولا حد لموضع قدم وغلقت الأبواب ولقينا شدة من الزحام وأمير المؤمنين حاضر] .

وقدم الحاج في نصف صفر وذكروا ما لقوا في طريقهم من الجوع وغلاء السعر وكثرة من هلك من المشاة والجمال .

وقبض على حاجب الباب أبي منصور ابن العلاء وسلم إلى أستاذ الدار وجرت همرجات عظيمة قبض فيها على جماعة ومنع ابن الوزير [بن رئيس الرؤساء] من الركوب وأن يتردد إلى بابه أحد واستكتب كثيرا من أملاكه ثم رد عليه كثير منها بعد [ ص: 236 ] ذلك وصرف أكثر أشغال الديوان إلى المخزن وانقطع عن الركوب أصلا وأخذ أبو المظفر الحسين بن محمد بن علي الدامغاني أخو قاضي القضاة [إلى دار صاحب المخزن وهو الذي كان ينوب عن قاضي القضاة] في الحكم على بابه وكان قد زوج امرأة فتظلم زوجها الأول وقال أكرهت على طلاقها فقيل له كيف زوجتها؟ فقال جاءني كتاب حكمي من واسط أن زوجها قد طلقها وفتحته وكتبت على ظهره وجاءتني براءة فكتبت عليها وزوجتها فأخرج صاحب المخزن الكتاب وليس بمفتوح ولا مكتوب في ظهره ولا في البراءة فجبهه صاحب المخزن وقال قد عزلتك عن القضاء والشهادة وكل ما كنت تتولاه ثم أمر بتنحية طيلسانه وقال [له] يبلغ عنك وعن أخيك ما لا يصلح وأمير المؤمنين لا يغفل عن هذا ثم جعل يتبع أفعالا تنسب إلى قاضي القضاة وحدثني بعض الوكلاء أن قاضي القضاة كان قد كتب إلى الخليفة قبل ذلك بمده يسأل أن يعفى من قصد صاحب المخزن فأعفي وكان بينهما شيء فلما رأى قاضي القضاة ما جرى على أخيه وكان قبل ذلك قد جرى على جماعة من وكلائه إهانات ثم تتبع وجاء في يوم الخميس حادي عشر ربيع الآخر إلى دار صاحب المخزن يستعطفه ثم صار يتردد إليه كل أسبوع واستقبح الناس هذا التردد بعد الانقطاع الدائم وعلموا أنه من الخوف .

[وفي يوم الاثنين النصف من ربيع الآخر: تكلمت في جامع المنصور وحضر الخلق فحزروا بمائة ألف وتاب ثلاثة وخمسون نفسا وقصت شعورهم .

وأنشد في يوم السبت الشهاب الضرير:


بك يا جمال الدين قد شقت من الأعدا مرائر     حسدوا وما لهم إذا
سروا علينا من جرائر     لك في الفداء نفوسنا
وهي الشريفات الحرائر     يا من تطير بلطفه
من نار معناه شرائر

[ ص: 237 ]

يوم الجلوس لنا الأنيس     لهم به تبلى السرائر
تكفي المليحة عند من     تهوى شهادات الضرائر

وفي يوم [الخميس] خامس عشرين ربيع الآخر: ضرب تركي تركيا [ضحوة نهار على باب النوبي] بنشابة ثم أتبعها ضربة بسيف ثم هرب الضارب وخرج من البلد ثم عاد ليأخذ من بيته شيئا ويهرب فأخذوه فصلب وقت الظهر بباب النوبي [وحط بعد صلاة الجمعة] .

وفي يوم الجمعة ثالث جمادى الأولى: منع من إقامة الجمعة التي في قصر عيسى المعروف بمسجد ابن المأمون وكان قد عمره فخر الدولة بن المطلب وأوسعه وأنفق عليه مالا وجاءت الأخبار بأن الموت في دمشق كثير والمرض بالموصل كثير .

وفي النصف من جمادى الآخرة: أخرج البلخي الواعظ من البلد بتوقيع بعد أن أسمعه حاجب الباب المكروه لما كان يذكر عنه من شرب الخمر .

وفي يوم [الجمعة] سادس عشر جمادى الآخرة: ركب الوزير إلى باب الحجرة بعد أن بقي زمانا لا يركب فطاب قلبه وجلس للهناء وجاء صاحب المخزن إلى دار الوزير بعد صلاة الجمعة والنقباء وقام له الوزير وقبل صاحب المخزن يده .

وجاءت إلى يوم الأحد خامس عشرين جمادى الآخرة فتوى في عبد وأمة كانا لرجل فأعتقهما وزوج الرجل بالمرأة فبقيت معه عشرين سنة وجاءت منه بأربعة أولاد ثم بان الآن أنها أخته لأبيه وأمه ومذ عرف ذلك أخذا في البكاء والنحيب فتعجبت من [ ص: 238 ] ذلك وأعلمتهما أنه لا أثم فيما مضى والعدة تلزمها ويجوز أن ينظر إليها بعد أن فارقها نظرة إلى أخته إلا أن يخاف على نفسه فيلزمه البعد عنها .

وفي ليلة رجب: تكلمت [بباب بدر] تحت المنظرة الشريفة وأمير المؤمنين حاضر والجمع متوفر .

وفي [بكرة ليلة الأحد] ثاني رجب: حضرنا دعوة أمير المؤمنين على العادة [وحضر] أرباب الدولة [كلهم] والعلماء والصوفية فأكلوا وختمت الختمة ودعا للختمة ابن المهتدي الخطيب وصلى بهم في ذلك اليوم وتلك الليلة في الدار وبعد دعاء الختمة خلع على أمير المدينة وولده وولد أمير مكة ثم انصرف من عادته الانصراف [وبات الباقون على عادتهم] وخلعت عليهم الخلع وفرقت الأموال .

وبنت الجهة المعظمة المسماة بنفشة رباطا في سوق المدرسة للصوفيات وفتحته أول رجب وعملت فيه دعوة وتكلمن فيه وأفرد لأخت أبي بكر الصوفي شيخ رباط الزوزني وفرقت الجهة عليهم مالا .

وفي ليلة [الأحد] سادس عشر رجب: جاء مطر عظيم ودام ثلاثة أيام بلياليهن وكان فيه رعود هائلة وبروق عظيمة ووقعت آدر كثيرة وامتلأت الطرقات بالماء وبقي الوحل أسبوعا وجمع أهل درب بينهم اثني عشر دينارا لمن ينقل الماء في المزادات إلى دجلة وأخرج الخليفة مالا ينفق في تنحية الوحل من الطرق وزادت [ ص: 239 ] دجلة زيادة بينة وذلك في كانون الثاني ولم يزل ينقص قليلا ثم يعود إلى الزيادة فقال لي شيخ من الملاحين لي ثمانون سنة ما رأيت مثل هذه الزيادة في كانون .

[وفي يوم الخميس سابع عشرين رجب: تكلمت بعد العصر تحت المنظرة وأمير المؤمنين حاضر] .

وفي هذه الأيام: خرج شحنة أوانا وعكبرا يتصيد فوق تلك النواحي فلقيه جماعة من بني خفاجة فقتلوه فجيء به إلى بيته بباب الأزج ثم حمل فدفن في مقبرة أحمد بن حنبل وكان كثير الخير والتدين لا يشرب الخمر ولا يشكي منه وكان مواظبا على حضور مجلسي .

وفي [يوم الاثنين] غرة شعبان [لكم رجل رجلا فمات في الحال] .

وأنشأ أمير المؤمنين مسجدا كبيرا في السوق عند عقد الحديد وتقدم بعمارته فعمر عمارة فائقة وكسى وقدم فيه عبد الوهاب [ابن العيبي] زوج ابنتي فصلى فيه بعد النصف من شعبان وأجريت له مشاهرة وتقدم إلي فصليت فيه بالناس التراويح ليلة وكان الزحام كثيرا فدخل على قلوب أهل المذهب ما شاء الله من الغم لكونه أضيف إلى الحنابلة وقد كان يرجف له به لغيرهم .

[وفي بكرة السبت خامس رمضان: تقدم بجلوسي في دار صاحب المخزن وازدحم الناس حتى غلق الباب وكان أمير المؤمنين حاضرا . ثم تكلمت يوم الاثنين حادي عشرين رمضان في داره أيضا على تلك الصفة .

وفي سحرة يوم الأربعاء سابع شوال: هبت ريح عظيمة فزلزلت الدنيا بتراب عظيم [ ص: 240 ] حتى خيف أن تكون القيامة ثم جاء فيها برد ودام ذلك ساعة طويلة ثم انجلت وقد وقعت حيطان وتهدمت مواضع على أقوام مات منهم وارتث منهم ووقع سقف متصل بمنظرة الخليفة التي عند باب الحلبة وكانت الريح تقوى ساعة وتخف ساعة إلى وقت الضحى ثم اشتدت وملأت الدنيا ترابا فصعد أعنان السماء فتبين السماء منه مصفرة إلى وقت العصر وزادت دجلة في عاشر شوال زيادة عشرين ذراعا على المعتاد وخاف الناس واشغلوا بالعمل في القورج ثم نقص الماء بعد ثلاثة أيام .

وفي يوم الجمعة سلخ شوال: بعد أذان الجمعة صعد غيم وجاء مطر شديد من جامع السلطان إلى الرصافة فما فوق فكانت ثم غدران وامتلأت الصحارى والشوارع به ولم يأت بنهر معلى إلا اليسير . وورد حاج كثير من خراسان فاستأذن الوزير ابن رئيس الرؤساء في الحج فأذن له فعمل تركا جميلا وقيل إنه اشترى ستمائة جمل وأقام منها مائة للمنقطعين وأخرج معه الأدوية ومن يطب المرضى واستصحب جماعة من أهل الخير والعلم ودخلنا إليه بكرة الثلاثاء نودعه فسلمنا عليه ثم قام فدخل إلى الخدمة ثم خرج فعبر في سفينة إلى ناحية الرقة وقد خرج أهل بغداد فامتلأت الشواطئ من الجانبين وامتدوا إلى ما فوق معروف ينظرون إليه وخرج معه أرباب الدولة سوى صاحب المخزن فإنه لم يلقه وأما أستاذ الدار فإنه ودعه في دار الخلافة وعبر معه تتامش وكان مريضا فرده حين صعد من السفينة وقال له أنت مريض فعاد فركب الوزير وبين يديه النقيبان وأرباب الدولة والعلماء وضرب له بوق حين ركب فلما وصل باب قطفتا خرج رجل كهل فقال يا مولانا أنا مظلوم وتقرب منه فزجره الغلمان فقال الوزير دعوه فتقدم إليه فضربه بسكين في خاصرته فصاح الوزير قتلني ووقع من الدابة ووقعت عمامته فغطى رأسه بكمه وبقي على قارعة الطريق وضرب ذلك الباطني بسيف فعاد فضرب الوزير وأقبل حاجب الباب ينصره فضربه الباطني بسكين وعاد وضرب الوزير فقطع الباطني بالسيوف ، وبعض الناس يقولون كانوا اثنين وخرج منهم شاب بيده سكين فقتل ولم يعمل شيئا وأحرقت أجساد الثلاثة وحمل الوزير إلى دار هناك وجيء بحاجب الباب إلى بيته واختلط الناس وما [ ص: 241 ] صدق أحد أن يعود إلى بيته في عافية ، وكان الوزير قد رأى في المنام قبل ذلك أنه عانق عثمان بن عفان ، وحكى عنه ولده أنه اغتسل قبل خروجه وقال هذا غسل الإسلام وإني مقتول بلا شك ومات الوزير بعد الظهر وتوفي حاجب الباب في الليل وغسل الوزير بكرة الأربعاء وحمل إلى جامع المنصور فصلي عليه وحضر أرباب الدولة وصاحب المخزن ودفن عند أبيه وجاء مكتوب من الخليفة إلى أولاده يطيب قلوبهم ويأمرهم بالقعود للعزاء فقعدوا يوم الخميس في داره فلم يحضر أحد يوما إليه لا من الأمراء ولا من القضاة ولا من الشهود ولا من الصوفية بل كان هناك عدد يسير وتكلم في العزاء من عادته يتكلم في أعزية العوام من الطرقيين فتعجبت من هذه الحال وأنه كان يكون عزاء بزاز أحسن من ذلك وما كان انقطاع الناس إلا رضا لصاحب المخزن لأنه كان يفارقه فلما كان في اليوم الثاني حضر الدار جماعة من الفقهاء بالنظامية فلم يقعد أولاده فلما علم الخليفة بالحال تقدم إلى أرباب الدولة ومن جرت عادته بالحضور فحضر في اليوم الثالث صاحب الديوان وقاضي القضاة والنقيب وغيرهم وسألوا أن أتكلم عندهم في العزاء فنصب لي كرسي لطيف وتكلمت عليه والقراء يقرءون ومددت الكلام إلى أن جاء خدم الخليفة بمكتوب منه يعزيهم ويأمرهم بالنهوض عن العزاء فقرأه ابن الأنباري قائما والناس كلهم قيام ثم انصرفوا] .

وفي يوم الجمعة: ولي ابن طلحة حجبة الباب .

وفي ليلة الاثنين: بعث صاحب المخزن بغلامه من الليل إلى تتامش ليحضر عنده وكانت له عادة بزيارته في الليل يخلوان للحديث فحضر عنده فوكل به في حجرة دار صاحب المخزن ونفذ إلى بيته فأخذ من الخيل والكوسات وكل ما في الدار واختلفت الأراجيف في نوبته فقوم يقولون إنهم في وضع الباطنية على قتل الوزير وذكر أنه كتب إلى أمير المؤمنين مرارا يحرضه على الخروج للفرجة في الحاج فلما اتفق قتل الوزير خيف أن تكون نيته قد كانت رديئة ، وقوم يقولون إنه كاتب أمراء خراسان ، وبقي موكلا به في دار صاحب المخزن . [ ص: 242 ]

وفي عاشر ذي الحجة: غسل الديوان ورتب وهيئ ورجمت الظنون وتحازر الناس من يكون وزيرا فلما كان يوم العيد تقدم إلى صاحب المخزن بالحضور في الديوان على وجه النيابة فحضر ورتب الموكب وانصرف .

وجاء قوم من أهل المدائن بعد العيد فشكوا من يهود بالمدائن وأنه كان لهم مسجد يصلى فيه الجماعة ويكثر فيه التأذين وهو إلى جانب كنيسة اليهود فقال بعض اليهود قد آذيتمونا بكثرة الآذان فقال المؤذن ما نبالي تأذيتم أم لا فتناوشوا وجرت بينهم خصومة استظهر فيها اليهود فجاء المسلمون يستنفرون ويستغيثون مما جرى عليهم من اليهود إلى صاحب المخزن فأمر بحبس بعضهم ثم أطلقهم فخرجوا يوم الجمعة إلى جامع الخليفة فاستغاثوا قبل الصلاة فخفف الخطيب الخطبة والصلاة فلما فرغ قاموا يستغيثون فخرج جماعة من الجند فضربوهم ومنعوهم من الاستغاثة فانهزموا فلما رأى العوام ما فعل بهم غضبوا نصرة للإسلام واستغاثوا وتكلموا بالكلام السيئ وقلعوا طوابيق الجامع وضربوا بها الجند فوقع الآجر على المنبر والشباك ثم خرجوا فنهبوا دكاكين المخلصين لأن أكثرهم يهود ووقف حاجب الباب بيده سيف مجذوب ليرد العوام وحمل عليهم نائبه فرجموه وانقلب البلد من ذلك وجاء قوم إلى الكنيسة التي بدار البساسيري فنهبوها ونقضوا شبابيكها وقطعوا التوراة وأخرجوها مقطعة الأوراق وما تجاسر يهودي يظهر وتقدم أمير المؤمنين بنقض الكنيسة التي بالمدائن وأمر أن تجعل مسجدا ونصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها أقوام من العيارين فظنها العوام لتفزيعهم والتهويل عليهم لأجل ما فعلوا فعلقوا على الأخشاب في الليل جرذانا ميتة .

وأخرج يوم الاثنين سادس عشر ذي الحجة: جماعة كانت لهم مدة في الحبس ذكر أنهم كانوا لصوصا بواسط وأنهم قتلوا قوما هناك فصلبوا بالرحبة وكان فيهم شاب هاشمي .

وفي الجمعة المقبلة أقيم الجند بالسلاح يحفظون الجامع والرحبة خوفا مما جرى من العامة في الجمعة الماضية فلم يتكلم أحد وصار الجند في كل جمعة يراعون الجامع حذرا من مثل ذلك . [ ص: 243 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية