الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 372 ] ( باب القسامة ) .

قال ( وإذا وجد القتيل في محلة ولا يعلم من قتله استحلف خمسون رجلا منهم . [ ص: 373 ] يتخيرهم الولي بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ) وقال الشافعي : إذا كان هناك لوث استحلف الأولياء خمسين يمينا ويقضي لهم بالدية على المدعى عليه عمدا كانت الدعوى أو خطأ . وقال مالك : يقضي بالقود إذا كانت الدعوى في القتل العمد وهو أحد قولي الشافعي ، والموت عندهما أن يكون هناك علامة القتل على واحد بعينه أو ظاهر يشهد للمدعي من عداوة ظاهرة أو شهادة عدل أو جماعة غير عدول أن أهل المحلة قتلوه ، [ ص: 374 ] وإن لم يكن الظاهر شاهدا له فمذهبه مثل مذهبنا ، غير أنه لا يكرر اليمين بل يردها على الولي ، فإن حلفوا لا دية عليهم للشافعي في البداء بيمين الولي قوله عليه الصلاة والسلام للأولياء { فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه } ولأن اليمين تجب على من يشهد له الظاهر ولهذا تجب على صاحب اليد ، فإذا كان الظاهر شاهدا للولي يبدأ بيمينه ورد اليمين على المدعي أصل له كما في النكول ، غير أن هذه دلالة فيها نوع شبهة والقصاص لا يجامعها والمال يجب معها فلهذا وجبت الدية . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } وفي رواية { على المدعى عليه } وروى سعيد بن المسيب { أن النبي عليه الصلاة والسلام بدأ باليهود بالقسامة وجعل [ ص: 375 ] الدية عليهم لوجود القتيل بين أظهرهم } ولأن اليمين حجة للدفع دون الاستحقاق وحاجة الولي إلى الاستحقاق ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل فأولى أن لا يستحق به النفس المحترمة . وقوله يتخيرهم الولي إشارة إلى أن خيار تعيين الخمسين إلى الولي لأن اليمين حقه ، والظاهر أنه يختار من يتهمه بالقتل أو يختار صالحي أهل المحلة لما أن تحرزهم عن اليمين الكاذبة أبلغ التحرز فيظهر القاتل ، وفائدة اليمين النكول ، فإن كانوا لا يباشرون ويعلمون يفيد يمين الصالح على العلم بأبلغ مما يفيد يمين الطالح ، ولو اختاروا أعمى أو محدودا في قذف جاز لأنه يمين وليس بشهادة .

التالي السابق


لما كان أمر القتيل يئول إلى القسامة فيما إذا لم يعلم قاتله ذكرها في باب على حدة في آخر الديات . ثم إن القسامة في اللغة : [ ص: 373 ] اسم وضع موضع الإقسام ، كذا في عامة الشروح أخذا من المغرب . وقال في معراج الدراية : القسامة لغة مصدر أقسم قسامة أو اسم وضع موضع الإقسام انتهى .

أقول : لا يرى وجه صحة لكون القسامة مصدر أقسم كما لا يخفى على من له دربة بعلم الأدب وأما في الشريعة فهي أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار وجد فيها قتيل به أثر جراحة يقول كل منهم بالله ما قتلته وما علمت له قاتلا كذا في العناية . أقول : فيه قصور ، فإنه يخرج منه ما إذا وجد القتيل لا في محلة ولا في دار بل في موضع خارج من مصر أو قرية قريب منه بحيث يسمع الصوت منه مع أنه يجب في هذه الصورة أيضا قسامة شرعية كما صرحوا به ويجيء في الكتاب . ولا يقال : إنه بنى الكلام على ما هو الأكثر وقوعا ، لأن المقام مقام تعريف لمعنى القسامة في الشريعة فلا بد من أن يكون جامعا ومانعا كما لا يخفى . فالأولى أن يزاد عليه قيود ويقال : هي في الشريعة أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار أو موضع خارج من مصر أو قرية قريب منه بحيث يسمع الصوت منه إذا وجد في شيء منها قتيل به أثر لا يعلم من قتله يقول كل واحد منهم بالله ما قتلت ولا علمت له قاتلا . وقال في النهاية : وأما تفسيرها شرعا فما روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال : في القتيل يوجد في المحلة أو دار رجل في المصر إن كان به جراحة أو أثر ضرب أو أثر خنق ولا يعلم من قتله يقسم خمسون رجلا من أهل المحلة كل منهم بالله ما قتلته ولا علمت له قاتلا

انتهى .

أقول : فيه سماجة لا تخفى ، فإن ما روى أبو يوسف عن أبي حنيفة على ما ذكر في النهاية إنما هو مسألة القسامة لا تفسير القسامة شرعا ، فإن التفسير من قبيل التصورات ، وما ذكر فيها تصديق من قبيل الشرطيات كما ترى ، نعم يمكن أن يؤخذ منه تفسير القسامة شرعا بتدقيق النظر ، لكنه في موضع بيان معنى القسامة شرعا في أول الباب تعسف خارج عن سنن الصواب . ثم قال في النهاية : وأما شرطها فهو أن يكون المقسم رجلا بالغا عاقلا حرا ، فلذلك لم يدخل في القسامة المرأة والصبي والمجنون والعبد ، وأن يكون في الميت الموجود أثر القتل ، وأما لو وجد ميتا لا أثر به فلا قسامة ولا دية . ومن شروطها أيضا تكميل اليمين بالخمسين انتهى . وفي غاية البيان أيضا كذلك . أقول : فيه كلام . أما أولا فلأن شروطها غير منحصرة بما ذكر ، فإن منها أيضا أن لا يعلم قاتله ، فإن علم فلا قسامة فيه ولكن يجب القصاص أو الدية كما تقدم .

ومنها أن يكون القتيل من بني آدم فلا قسامة في بهيمة وجدت في محلة قوم ولا غرم فيها . ومنها الدعوى من أولياء القتيل لأن القسامة يمين واليمين لا تجب بدون الدعوى كما في سائر الدعاوى . ومنها إنكار المدعى عليه لأن اليمين وظيفة المنكر ، ومنها المطالبة بالقسامة ، لأن اليمين حق المدعي وحق الإنسان يوفى عند طلبه كما في سائر الأيمان . ومنها أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل ملكا لأحد أو في يد أحد فإن لم يكن ملكا لأحد ولا في يد أحد أصلا فلا قسامة فيه ولا دية .

ومنها أن لا يكون القتيل ملكا لصاحب الملك الذي وجد فيه [ ص: 374 ] فلا قسامة ولا دية في قن أو مدبر أو أم ولد أو مكاتب أو مأذون وجد قتيلا في دار مولاه . نص في البدائع على هاتيك الشروط كلها بالوجه الذي ذكرناه مع زيادة تفصيل . فما وجه ذكر بعض الشروط وترك أكثرها . وأما ثانيا فلأنه إذا وجد قتيل في دار مكاتب فعليه القسامة ، وإذا حلف يجب عليه الأقل من قيمته ومن الدية ، نص عليه في البدائع ، وقال : ذكره القاضي في شرحه لمختصر الطحاوي ، فما معنى جعل كون المقسم حرا من شروطها ، اللهم إلا أن يقال : المكاتب حر يدا وإن لم يكن حرا رقبة كما صرحوا به ومر في الباب السابق فوجد فيه الحرية في الجملة فجاز اشتراط الحرية في القسامة مطلقا بناء على ذلك ، لكن لا يخفى ما فيه . وقال في العناية : وشرطها بلوغ المقسم وعقله وحريته ووجود أثر القتل في الميت وتكميل اليمين خمسين انتهى .

أقول : فيه شيء من الإخلال زائد على ما في النهاية وغاية البيان وهو أنه لم يتعرض فيه لاشتراط الذكورة في المقسم مع كونها شرطا أيضا . ثم أقول : في إمكان توجيه ذلك احتمالان : أحدهما أنه اكتفى في إفادة ذلك الشرط أيضا بتذكير لفظ المقسم في قوله : بلوغ المقسم ، وبتذكير الضمير في قوله وعقله وحريته ، وإن كان تغليب المذكر على المؤنث شائعا في أحكام الشرع . وثانيهما أنه ترك ذكر اشتراط الذكورة بناء على وجوب القسامة على المرأة في مسألة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ، وهي ما سيجيء في آخر هذا الباب من أنه لو وجد قتيل في قرية لامرأة ; فعند أبي حنيفة ومحمد عليها القسامة تكرر عليها الأيمان والدية على عاقلتها . وقال أبو يوسف : القسامة على العاقلة أيضا فكانت المرأة أهلا للقسامة في الجملة عندهما .

( قوله وإن لم يكن الظاهر شاهدا له فمذهبه مثل مذهبنا ) أقول : في تحرير المصنف هنا قصور بل اختلال : أما أولا فلأن مذهب الخصم مثل مذهبنا إذا لم يكن هناك لوث : أي قرينة حال توقع في القلب صدق المدعي سواء كان ذلك اللوث من قبل علامة القتل على واحد بعينه كالدم ، أم من قبل ظاهر يشهد للمدعي كعداوة ظاهرة ونحوها فلا وجه لتخصيصه بالثاني كما هو الظاهر من قوله وإن لم يكن الظاهر شاهدا له بعد عطف قوله أو ظاهر يشهد للمدعي فيما قبل على قوله علامة القتل على واحد بعينه ، فحق العبارة أن يقال : وإن لم يكن هناك لوث . وأما ثانيا فلأن إيراد الضمير المفرد في قوله فمذهبه بعد أن ذكر فيما قبل مذهب كل واحد من الشافعي ومالك وإن قال : اللوث عندهما إلخ من قبيل الإغلاق حيث لا يفهم أن مرجعه أي منهما ، وعن هذا حمله بعض الشراح على الشافعي وبعضهم على مالك فحق المقام الإظهار دون الإضمار كما لا يخفى ( قوله ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر } وفي رواية { على المدعى عليه } ) أقول : لقائل أن يقول : إن قوله عليه الصلاة والسلام { واليمين على المدعى عليه } إن أفاد قصر اليمين على المدعى عليه بناء على ما صرحوا به في علم الأدب من أن المعرف فاللام [ ص: 375 ] الجنس إذا جعل مبتدأ فهو مقصور على الخبر نحو " الكرم التقوى والتوكل على الله " و { الأئمة من قريش } وقد أشار إليه المصنف في باب اليمين من كتاب الدعوى حيث استدل فيه على أن لا يرد اليمين على المدعي عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام { البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر } وقال : في وجهه جعل جنس الأيمان على المنكرين وليس وراء الجنس شيء انتهى .

لزم أن لا يصح تحليف غير المدعى عليه من أهل المحلة فيما إذا ادعى الولي القتل على بعض منهم بعينه مع أنه يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة في هذه الصورة أيضا كما صرح به المصنف فيما سيجيء ، وجعل إطلاق جواب الكتاب دليلا عليه وقال : وهكذا الجواب في المبسوط وإن لم يفد قوله عليه الصلاة والسلام { واليمين على المدعى عليه } قصر اليمين على المدعى عليه لا يثبت المدعى هاهنا بالحديث المذكور فلا يصح التعليل به ، اللهم إلا أن يقال : يجوز أن يثبت به المدعى هنا بوجه آخر وهو أنه عليه الصلاة والسلام ذكر قوله المزبور بطريق القسمة بين الخصمين والقسمة تنافي الشركة ، وقد أشار المصنف إليه أيضا في باب اليمين من كتاب الدعوى حيث قال : ولا ترد اليمين على المدعي لقوله عليه الصلاة والسلام { البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر } قسم والقسمة تنافي الشركة ، وجعل جنس الأيمان على المنكرين وليس وراء الجنس شيء انتهى .

ولا يخفى أن منافاة القسمة الشركة إنما تقتضي أن لا يحلف المدعي لا أن لا يحلف غير المدعي والمدعى عليه كما فيما نحن فيه في صورة إن ادعى الولي القتل على بعض معين من أهل المحلة . نعم يلزم أن ينتقض بهذه الصورة قول المصنف في باب اليمين وجعل جنس الأيمان على المنكرين وليس وراء الجنس شيء تأمل تقف .

( قوله وفائدة اليمين النكول ، فإذا كانوا لا يباشرون ويعلمون يفيد يمين الصالح على العلم بأبلغ مما يفيد يمين الطالح ) أقول : لا فائدة هنا لذكر المقدمة القائلة وفائدة اليمين النكول ، بل فيه خلل لأن موجب النكول في هذه المسألة حبس الناكل حتى يحلف لا القضاء بما ادعاه الولي كما سيأتي في الكتاب ، فإنما يظهر فائدة اليمين على الصالح في إظهاره القاتل تحرزا عن اليمين الكاذب لا في مجرد نكوله حتى يلزم المصير إلى ذكر المقدمة المزبورة ، ثم إن كون فائدة اليمين النكول إنما هو في الأموال لا في باب القسامة لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيما لأمر الدم ولهذا يجمع بينها وبين الدية ، بخلاف النكول في الأموال كما سيأتي بيانه في الكتاب ، فلا معنى لذكر تلك المقدمة هاهنا ، ولقد أصلح صاحب الكافي تقرير هذا المحل حيث قال : وله أن مختار المشايخ والصلحاء منهم لأنهم يتحرزون عن اليمين الكاذبة أكثر مما يتحرز الفسقة ، فإذا علموا القاتل فيهم أظهروه ولم يحلفوا انتهى ، بقي في هذا المقام إشكال على كل حال ، وهو أنه لو أخبر بعض من أهل المحلة بأنه يعلم أن القاتل أحد من أهل المحلة بعينه أو أحد من غير أهلها لا يقبل قوله ولا يعمل به لكونهم متهمين بدفع الخصومة عن أنفسهم كما صرحوا به [ ص: 376 ] وسيجيء في الكتاب تفصيله فما الفائدة في استحلافهم على العلم رأسا ، ولم أر أحدا من الثقات حام حول حل هذا الإشكال سوى صاحب البدائع فإنه قال : فإن قيل : أية فائدة في الاستحلاف على العلم وهم لو علموا القاتل فأخبروا به لكان لا يقبل قولهم لأنهم يسقطون به الضمان عن أنفسهم فكانوا متهمين دافعين الغرم عن أنفسهم .

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا شهادة للمتهم } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا شهادة لجار المغنم ولا لدافع المغرم } قيل : إنما استحلفوا على العلم اتباعا للسنة ، لأن السنة هكذا وردت لما روينا من الأخبار فاتبعت السنة من غير أن يعقل فيه المعنى . ثم فيه فائدة من وجهين : أحدهما أن من الجائز أن يكون القاتل عبدا لواحد منهم فيقر عليه بالقتل فيقبل إقراره ، لأن إقرار المولى على عبده بالقتل الخطإ صحيح فيقال له : ادفعه أو افده ويسقط الحكم عن غيره فكان التحليف على العلم مفيدا ، وجائز أن يقر على عبد غيره فصدقه مولاه فيؤمر بالدفع أو الفداء ويسقط الحكم عن غيره فكان مفيدا فجاز أن يكون التحليف على العلم لهذا المعنى في الأصل ، ثم بقي هذا الحكم وإن لم يكن لواحد من الحالفين عبد كالرمل في الطواف { فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان رمل في الطواف إظهارا للجلادة والقوة للكفرة ويقول : رحم الله امرأ أظهر اليوم الجلادة من نفسه } ثم زال ذلك اليوم وبقي الرمل في الطواف كذا هذا .

والثاني أنه لا يمتنع أن يكون واحد منهم أمر صبيا أو مجنونا أو عبدا محجورا بالقتل ، فلو أقر به يلزمه في ماله فيحلف بالله ما علمت له قاتلا ، لأنه لو قال علمت له قاتلا وهو الصبي الذي أمره بقتله لكان حاصل الضمان عليه ويسقط الحكم عن غيره فكان مفيدا ، إلى هنا لفظ البدائع فليكن هذا على ذكر منك




الخدمات العلمية