الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وموجب ذلك المأثم ) لقوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } الآية ، وقد نطق به غير واحد من السنة ، وعليه انعقد إجماع الأمة

[ ص: 206 ] قال ( والقود ) لقوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } إلا أنه تقيد بوصف العمدية لقوله عليه الصلاة والسلام { العمد قود } أي موجبه ، ولأن الجناية بها تتكامل وحكمة الزجر عليها تتوفر ، والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون ذلك

[ ص: 207 ] قال ( إلا أن يعفو الأولياء أو يصالحوا ) ; لأن الحق لهم ثم هو واجب عينا ، وليس للولي أخذ الدية إلا برضا القاتل وهو أحد قولي الشافعي ، إلا أن له حق العدول إلى المال من غير مرضاة القاتل ; لأنه تعين مدفعا للهلاك فيجوز بدون رضاه ، وفي قول الواجب أحدهما لا بعينه ويتعين باختياره ; لأن حق العبد شرع جابرا وفي كل واحد نوع جبر فيتخير

ولنا ما تلونا من الكتاب وروينا من السنة ، ولأن المال لا يصلح موجبا لعدم المماثلة ، والقصاص يصلح للتماثل ، وفيه مصلحة الأحياء زجرا وجبرا فيتعين ، وفي الخطإ وجوب المال ضرورة صون الدم عن الإهدار ، [ ص: 208 ] ولا يتيقن بعدم قصد الولي بعد أخذ المال فلا يتعين مدفعا للهلاك ، [ ص: 209 ] ولا كفارة فيه عندنا : وعند الشافعي رحمه الله تجب ; لأن الحاجة إلى التكفير في العمد أمس منها إليه في الخطأ فكان أدعى إلى إيجابها

ولنا أنه كبيرة محضة ، وفي الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها ، ولأن الكفارة من المقادير ، [ ص: 210 ] وتعينها في الشرع لدفع الأدنى لا يعينها لدفع الأعلى

ومن حكمه حرمان الميراث لقوله عليه الصلاة والسلام { لا ميراث لقاتل }

التالي السابق


( قوله وموجب ذلك المأثم لقوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } الآية ) أقول : لقائل أن يقول : الدليل خاص والمدعي عام ، [ ص: 206 ] لأن إيجاب القتل العمد المأثم ، والقود يعم المسلم والذمي لما سيجيء من أن المسلم يقاد بالذمي عندنا ، ولا شك أن وجوب القود لا ينفك عن لزوم المأثم ، والآية المذكورة مخصوصة بقتل المؤمن ، اللهم إلا أن يقال : الآية المذكورة وإن أفادت المأثم في قتل المؤمن عمدا فقط بعبارتها إلا أنها تفيد المأثم في قتل الذمي عمدا أيضا بدلالتها بناء على ثبوت المساواة في العصمة بين المسلم والذمي نظرا إلى التكليف أو الدار كما سيأتي تفصيله

فإن قيل : بقي خصوص الدليل مع عموم المدعي من جهة أخرى ، وهي أن المذهب عند أهل السنة والجماعة أن المؤمن لا يخلد في النار ، وإن ارتكب كبيرة ولم يتب ، فالظاهر أن المراد بمن يقتل في الآية المذكورة هو المستحل بدلالة خالدا فيها فكان القتل بدون الاستحلال خارجا عن مدلول الآية

قلنا : لا نسلم ظهور كون المراد بمن يقتل في الآية المذكورة هو المستحل لجواز أن يكون المراد بالخلود المذكور فيها هو المكث الطويل كما ذكر في التفاسير ، فلا ينافي التعميم مذهب أهل السنة والجماعة

ولئن سلم كون المراد بذلك هو المستحل كما ذكر في الكتب الكلامية وفي التفاسير أيضا فالآية دالة على عظم تلك الجناية ، وتحقق الإثم في قتل المؤمن عمدا بدون الاستحلال أيضا ، وإلا لما لزم من استحلاله الخلود في النار ( قوله والقود لقوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } إلا أنه تقيد بوصف العمدية لقوله عليه الصلاة والسلام { العمد قود } أي موجبه ) يعني أن ظاهر الآية يوجب القود بالقصاص أينما يوجد القتل ، ولا يفصل بين العمد والخطإ إلا أنه تقيد بوصف العمدية بالحديث المشهور الذي تلقته الأمة بالقبول وهو قوله عليه الصلاة والسلام { العمد قود } أي موجبه قود ، كذا في الشروح قال صاحب الكفاية بعد ذلك : لا يقال إن قوله عليه الصلاة والسلام { العمد قود } لا يوجب التقييد ; لأنه تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه ; لأنا نقول : لو لم يوجب هذا الخبر تقييد الآية لم يكن القود موجب العمد فقط فلا يكون لذكر لفظ العمد فائدة انتهى

أقول : سؤاله ظاهر الورود ينبغي أن يخطر ببال كل ذي فطرة سليمة ، ولكن لم أر أحدا سواه حام حول ذكره

وأما جوابه فمنظور فيه عندي لجواز أن يكون سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن حكم العمد فقط بأن كانت الحادثة قتل العمد فصار قوله عليه الصلاة والسلام { العمد قود } جوابا عن سؤالهم ، ففائدة ذكر لفظ العمد حينئذ تطبيق الجواب للسؤال ، ومع هذا الاحتمال كيف يتعين تقييد كتاب الله تعالى بالحديث المذكور تفكر ( قوله : ولأن الجناية بها تتكامل وحكمة الزجر عليها تتوفر والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون ذلك ) أقول : جعل صاحب العناية قوله : ولأن الجناية بها تتكامل وحكمة الزجر عليها تتوفر حجة تامة

وجعل قوله : والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون ذلك حجة أخرى فقال في تقرير الأولى : وتقرير [ ص: 207 ] حجته أن العمدية تتكامل بها الجناية ، وكل ما كان يتكامل به الجناية كانت حكمة الزجر عليها أكمل ، وقال في تقرير الأخرى وتقريرها القود عقوبة متناهية ، والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون العمدية وذلك ظاهر انتهى

أقول : ليس ذاك بسديد ; لأن صحة الحكم بأن العقوبة المتناهية لا شرع لها دون العمدية موقوفة على كون الآية المذكورة مقيدة بوصف العمدية ; إذ لو كانت باقية على إطلاقها لتناولت العمد وشبهه والخطأ ، فلزم أن يكون القصاص الذي هو عقوبة كاملة مشروعا دون العمدية أيضا بمقتضى إطلاقها ، وكون الآية المذكورة مقيدة بوصف العمدية هو المدعى ها هنا ، فعلى تقدير أن يكون قوله : والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون ذلك حجة أخرى يلزم المصادرة على المطلوب

وأيضا يلزم حينئذ أن لا يفيد المدعي ما جعله حجة أولى ; لأن نتيجتها على مقتضى تقريره أن العمدية كانت حكمة الزجر عليها أكمل ، ولا يلزم منها أن لا تتحقق حكمة الزجر في غير العمد أصلا فيجوز أن يجب القصاص في غير العمد أيضا زجرا عنه فلا يتم المطلوب

فالصواب أن قوله : والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون ذلك من تتمة ما قبله والمجموع حجة واحدة ، وأن لفظ ذلك في قوله لا شرع لها دون ذلك إشارة إلى تكامل الجناية كما ذهب إليه كثير من الشراح أو إلى توفر حكمة الزجر كما هو الأظهر والأقرب لا إلى العمدية كما زعمه صاحب العناية ، فيفيد مجموع المقدمات أن القود الذي هو عقوبة متناهية لا يجب في غير العمد كما لا يخفى على ذي مسكة

ثم أقول : بقي في كلام [ ص: 208 ] المصنف ها هنا شيء ، وهو أنه قد تقرر في كتب الأصول أن مرجع الأدلة العقلية المذكورة في علم الفقه بأسرها إلى القياس ، وبهذا صححوا انحصار الأدلة الشرعية في أربعة ، وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس

فقول المصنف ها هنا ولأن الجناية بها تتكامل إلخ راجع إلى القياس ، وتقييد الكتاب بالقياس نسخ لإطلاق الكتاب بالقياس وهو غير جائز كما عرف في علم الأصول فليتأمل ( قوله : ولا يتيقن بعدم قصد الولي بعد أخذ المال فلا يتعين مدفعا للهلاك ) يعني لا يتيقن بعدم قصد الولي لقتل القاتل بعد ما أخذ الدية لجواز أن يأخذها الولي من القاتل بدون رضاها ثم يقتله

وهذا جواب عن قول الشافعي ; لأنه تعين مدفعا للهلاك ، كذا في الشروح

أقول : للخصم أن يقول : لا شك أنه يتعين مدفعا للهلاك شرعا ، فإن القاتل يصير محقون الدم بعده ، حتى لو قتله الولي بعده يقتص منه ، وكونه مدفعا للهلاك شرعا يكفي لأخذ الدية من القاتل بدون رضاه ; إذ الظاهر أن القاتل لا يختار الهلاك المقرر عند تحقق الخلاص عنه شرعا بأداء المال بمجرد احتمال الهلاك عقلا بعد أداء ذلك أيضا ، فلو اختاره القاتل وامتنع عن أداء المال يعد ذلك سفها وإلقاء لنفسه في التهلكة فينبغي أن يحجر عليه

ثم أقول : لعل الأولى في الجواب عن قول الشافعي : لأنه تعين مدفعا للهلاك أن يقال : هذا تعليل في مقابلة النص من الكتاب والسنة وهو لا يجوز كما تقرر في علم الأصول

قال في العناية أخذا من النهاية : قيل هذا الوهم موجود فيما أخذ المال صلحا وقد جاز

وأجيب بأن في الصلح المراضاة ، والقتل بعده ظاهر العدم انتهى

وقال بعض الفضلاء : فيه بحث ; لأن رضا القاتل لا يفيد ورضا الولي موجود [ ص: 209 ] في محل النزاع

والأولى أن يكتفي في الجواب بقوله : إن في الصلح المراضاة ، إذ لا مانع من الأخذ فيه بعد ما وجد رضا القاتل ، بخلاف ما نحن فيه انتهى

أقول : بحثه ساقط ; لأن قوله : لأن رضا القاتل لا يفيد غير مسلم ، فإن رضاه إذا اجتمع مع رضا الولي يفيد أمرا زائدا على رضا الولي وحده ، فإن التصالح والتوافق من الجانبين يقطع مادة العداوة والبغض عادة ، وعن هذا قال الله تبارك وتعالى { والصلح خير } بخلاف رضا الولي وحده فإن الإنسان كثيرا ما يندم على فعل نفسه وحده فيرجع عنه فتم قول المجيب والقتل بعده ظاهر العدم ، وقد كان صاحب النهاية أشار إلى ما قلنا حيث قال في بسط الجواب المذكور : قلت لا كذلك ; لأنهما لما تصالحا برضاهما على المال كان وهو قصد القتل مندفعا ; لأن للتراضي والتصالح تأثيرا في دفع الشر ، قال الله تعالى { والصلح خير } ولما ورد الخير انتفى الشر لا محالة للتضاد بينهما انتهى

ثم قال في العناية : وعورض بقوله عليه الصلاة والسلام { من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين : إن أحبو قتلوا ، وإن أحبو أخذوا الدية } وبأن الشرع أوجب القصاص لمعنى الانتقام وتشفي صدور الأولياء ، بخلاف القياس فإن الجماعة تقتل بواحد ، والقياس لا يقتضيه ، فكان لمعنى النظر للولي وذلك بتمكنه من القصاص وأخذ الدية

والجواب أن الحديث خبر واحد فلا يعارض الكتاب والسنة المشهورة على ما ذكرنا ، وأن القصاص لمعنى النظر للولي على وجه خاص وهو الانتقام وتشفي الصدور ، فإنه شرع زجرا عما كان عليه أهل الجاهلية من إفناء قبيلة بواحد ، لا ; لأنهم كانوا يأخذون أموالا كثيرة عند قتل واحد منهم ، بل القاتل وأهله لو بذلوا ما ملكوه وأمثاله ما رضي به أولياء المقتول ، فكان إيجاب المال في مقابلة القتل العمد تضييع حكمة القصاص انتهى

أقول : فيه نظر ; إذ للخصم أن يقول : إنما يكون إيجاب المال في مقابلة القتل العمد تضييعا لحكمة القصاص أن لو كان إيجابه في مقابلته على وجه التعيين ، وأما إذا كان ذلك لا على وجه التعيين بل على وجه تخيير الولي بين أخذ المال وبين القصاص كما هو المذهب عند الخصم فلا تضييع لحكمة القصاص ; إذ للولي حينئذ القدرة على الانتقام وتشفي الصدور باختيار القصاص ، فإذا لم يختره بل اختار المال كان تاركا للانتقام باختياره فكان كما إذا عفا أو صالح في إسقاط ما قدر عليه من حقه ( قوله : ولنا أنه كبيرة محضة وفي الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها ) قال تاج الشريعة : فإن قلت : يشكل بكفارة قتل صيد الحرم فإنه كبيرة محضة ومع هذا تجب فيه الكفارة

قلت : هو جناية على المحل ، ولهذا لو اشترك حلالان في قتل صيد الحرم يلزم جزاء واحد ، ولو كان جناية الفعل لوجب جزاءان ، والجناية على المحل يستوي فيه العمد والخطأ انتهى

أقول : في الجواب بحث

أما أولا فلأنه لا يدفع السؤال المذكور ; لأن مورده مضمون الدليل المزبور ، وهو أن الكفارة لا تناط بما هو كبيرة محضة لا أصل المدعي ، وهو أنه لا كفارة في القتل العمد ، فإذا سلم كون قتل صيد الحرم كبيرة محضة يلزم أن يشكل الدليل المزبور به سواء كان جناية الفعل أو جناية المحل ، وكون الجناية على المحل يستوي فيه العمد والخطأ إنما يفيد لو أورد السؤال على أصل المدعي ، فإنه يمكن الجواب عنه حينئذ بأن ما قلناه في جناية الفعل دون جناية المحل ، وقتل صيد الحرم من قبيل الثانية دون الأولى

وأما ثانيا فلأنه قد تقرر في كتب أصول الفقه أن الكفارة جزاء الفعل من كل الوجوه لا جزاء المحل أصلا ، فلو كان قتل صيد الحرم جناية على المحل لا جناية الفعل لزم أن لا تصلح الكفارة لكون الكفارة جزاء الفعل من كل الوجوه لا جزاء المحل أصلا ( قوله ولأن الكفارة من المقادير [ ص: 210 ] وتعينها في الشرع لدفع الأدنى لا يدل على تعينها لدفع الأعلى ) هذا جواب عن قياس الشافعي وجوب الكفارة في العمد على وجوبها في الخطإ يعني أن تعين الكفارة في الشرع لدفع الذنب الأدنى ، وهو الخطأ لا يدل على تعينها لدفع الذنب الأعلى وهو العمد ، فإن كم من شيء يتحمل الأدنى للقدرة عليه ولا يتحمل الأعلى للعجز عنه ، كذا في النهاية وغيرها

قال صاحب العناية : فإن قال الشافعي قد دل الدليل على عدم اعتبار صفة العمدية وهو حديث { واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاحب لنا قد استوجب النار بالقتل ، فقال : أعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار } وإيجاب النار إنما يكون بالقتل العمد

قلنا : لا نسلم لجواز أن يكون استوجبها بشبه العمد كالقتل بالحجر أو العصا الكبيرين

سلمناه لكنه لا يعارض إشارة قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } فإن الفاء تقتضي أن يكون المذكور كل الجزاء ، فلو أوجبنا الكفارة لكان المذكور بعضه وهو خلف انتهى

أقول : للخصم أن يقول : هذا مشترك الإلزام ; إذ القصاص واجب في القتل العمد بالإجماع ، فلو اقتضت الفاء أن يكون المذكور بعدها كل الجزاء لزم أن يكون القصاص أيضا مذكورا في الجزاء مع أنه لم يذكر فيه وإن حمل الجزاء المذكور في الآية على الجزاء الأخروي فقط كما هو الظاهر من النظم الشريف

وقيل القصاص جزاء دنيوي فلهذا لم يذكر بعد الفاء فليكن الأمر كذلك في شأن الكفارة

ثم أقول : يمكن أن يجاب عنه بوجهين أحدهما أن وجوب القصاص عرف بآية أخرى ، وهي قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } فإن دلت إشارة قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } على أن القصاص ليس من جزاء القتل العمد كالكفارة بمقتضى كون المذكور بعد الفاء كل الجزاء فقد دلت عبارة قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } على وجوب القصاص في القتل العمد

[ ص: 211 ] وقد تقرر في علم الأصول أن عبارة النص ترجح على إشارة النص عند التعارض فعملنا بعبارة قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } وثانيهما : أن القصاص جزاء المحل من وجه وجزاء الفعل من وجه آخر كما بين في التوضيح وغيره من كتب الأصول

وأما الكفارة فجزاء الفعل من كل الوجوه على ما تقرر في كتب الأصول أيضا

والظاهر من الجزاء المضاف إلى الفاعل في قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } هو جزاء فعله من كل الوجوه ، فلا يلزم أن يكون القصاص مذكورا فيه ، بخلاف الكفارة لو أوجبناها

وقال صاحب النهاية ومعراج الدراية ها هنا نقلا عن المبسوط والأسرار : ولا وجه لحمل الآية على المستحل ; لأن المذكور في الآية جزاء القتل العمد ، وإذا حمل على المستحل كان المذكور جزاء الردة ، ولأن زيادة الاستحلال زيادة على الشرط المنصوص فيكون نسخا

وأما تأويل الخلود فعلى معنى أنه لو عامله بعدله أو على معنى تطويل المدة مجازا يقال خلد فلان في السجن إذا طالت المدة انتهى

أقول : ليس شيء من ذينك الدليلين المسوقين لعدم وجه حمل الآية المذكورة على المستحل بمستقيم

أما الأول منهما فلأن كون المذكور في هاتيك الآية جزاء قتل العمد مما لا ينافيه كونه جزاء الردة أيضا على تقدير حملها على المستحل ، إذ يصير المذكور فيها على ذلك التقدير جزاء القتل العمد المخصوص وهو القتل بطريق الاستحلال والعياذ بالله ، ولا شك أن القتل بهذا الطريق مستلزم للردة ، ففي الآية ; إذ ذاك بيان جزاء الردة التي سببها القتل المخصوص ، وفي التعبير في الشرط بمن { من يقتل مؤمنا متعمدا } دون من يرتد عن دين الإسلام فائدة التنبيه على سببية قتل المؤمن بطريق الاستحلال للارتداد الذي جزاؤه جهنم على الخلود ، وهذا معنى لطيف لا يخفى

وأما الثاني منهما فلأنه لا يلزم من حمل الآية المزبورة على المستحل زيادة الاستحلال على الشرط المنصوص ، بل يكون الاستحلال حينئذ مدلول نفس الشرط المنصوص بأن يكون المراد من { متعمدا } معنى مستحلا مجازا بقرينة ذكر الخلود ، في الجزاء ، كما أن أئمتنا حملوا متعمدا على هذا المعنى في قول النبي صلى الله عليه وسلم { من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر } وبأن يكون معنى من يقتل مؤمنا من يقتله لكونه مؤمنا كما ذكره العلامة التفتازاني في شرحه للعقائد ، فيكون مداره على قاعدة أن ترتيب الحكم على المشتق يقتضي عليه المأخذ ، ولا شك أن قتل المؤمن لكونه مؤمنا يقتضي استحلال قتله فيحصل الدلالة على الاستحلال من نظم النص المزبور فلا يلزم النسخ أصلا ، والعجب من هؤلاء الأجلاء وهو أصحاب المبسوط والأسرار والنهاية ومعراج الدراية أنه كيف خفي عليهم ما ذكرنا

قال القاضي البيضاوي في تفسير الآية المذكورة : وهو عندنا إما مخصوص بالمستحل له كما ذكره عكرمة وغيره ، ويؤيده { أنه نزل في مقيس بن حبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعوا إليه ديته فدفعوا ، ثم حمل على مسلم فقتله ورجع إلى مكة مرتدا }

أو المراد بالخلود المكث الطويل ، فإن الدلائل متظاهرة على أن عصاة المؤمنين [ ص: 212 ] لا يدوم عذابهم ، إلى هنا لفظ القاضي




الخدمات العلمية