الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولو استأجر رب الدار الفعلة لإخراج الجناح أو الظلة فوقع فقتل إنسانا قبل أن يفرغوا من العمل فالضمان عليهم ) لأن التلف بفعلهم ( وما لم يفرغوا لم يكن العمل مسلما إلى رب الدار ) وهذا لأنه انقلب فعلهم قتلا حتى وجبت عليهم الكفارة ، والقتل غير داخل في عقده فلم يتسلم فعلهم إليه فاقتصر عليهم ( وإن سقط بعد فراغهم فالضمان على رب الدار استحسانا ) [ ص: 310 ] لأنه صح الاستئجار حتى استحقوا الأجر ووقع فعلهم عمارة وإصلاحا فانتقل فعلهم إليه فكأنه فعل بنفسه فلهذا يضمنه ( وكذا إذا صب الماء في الطريق فعطب به إنسان أو دابة ، وكذا إذا رش الماء أو توضأ ) لأنه متعد فيه بإلحاق الضرر بالمارة ( بخلاف ما إذا فعل ذلك في سكة غير نافذة وهو من أهلها أو قعد أو وضع متاعه ) لأن لكل واحد أن يفعل ذلك فيها لكونه من ضرورات السكنى كما في الدار المشتركة . قالوا : هذا إذا رش ماء كثيرا بحيث يزلق به عادة ، أما إذا رش ماء قليلا كما هو المعتاد والظاهر أنه لا يزلق به [ ص: 311 ] عادة لا يضمن ( ولو تعمد المرور في موضع صب الماء فسقط لا يضمن الراش ) لأنه صاحب علة . وقيل : هذا إذا رش بعض الطريق لأنه يجد موضعا للمرور لا أثر للماء فيه ، فإذا تعمد المرور على موضع صب الماء مع علمه بذلك لم يكن على الراش شيء ، وإن رش جميع الطريق يضمن لأنه مضطر في المرور ; وكذلك الحكم في الخشبة الموضوعة في الطريق في أخذها جميعه أو بعضه ( ولو رش فناء حانوت بإذن صاحبه فضمان [ ص: 312 ] ما عطب على الآمر استحسانا . وإذا استأجر أجيرا ليبني له في فناء حانوته فتعقل به إنسان بعد فراغه فمات يجب الضمان على الآمر استحسانا ، ولو كان أمره بالبناء في وسط الطريق فالضمان على الأجير ) لفساد الأمر .

التالي السابق


( قوله ولو استأجر رب الدار الفعلة لإخراج الجناح أو الظلة فوقع فقتل إنسانا قبل أن يفرغوا من العمل فالضمان عليهم إلخ ) قال شيخ الإسلام : هو على وجوه : إن قال مخرج الجناح للأجراء : ابنوا جناحا لي على فناء داري فإنه ملكي أو لي حق إشراع الجناح إليه من القديم ولم يعلم العملة بخلاف ما قاله ففعلوا ثم سقط فأصاب شيئا فالضمان عليهم ، ويرجعون بالضمان على الآمر قياسا واستحسانا سواء سقط قبل الفراغ من العمل أو بعده ، لما أن الضمان وجب على العامل بأمر الآمر فكان له أن يرجع به عليه ، كما لو استأجر غيره ليذبح له شاة ثم استحقت الشاة بعد الذبح فللمستحق أن يضمن الذابح ويرجع الذابح به على الآمر ولأنه غره كذا هذا .

وإن قال [ ص: 310 ] المستأجر للأجراء : اشرعوا لي جناحا على فناء داري وأخبرهم أنه ليس له حق إشراع الجناح أو لم يخبرهم حتى بنوا جناحا بأمره ثم سقط فأتلف شيئا ، إن سقط قبل فراغهم من العمل فالضمان على الأجراء ولم يرجعوا قياسا واستحسانا ، وإن سقط بعد فراغهم من العمل فكذلك على جواب القياس لأنه أمرهم بما لم يملك مباشرته بنفسه وقد علموا بفساد الأمر فلم يحكم بالضمان على المستأجر كما لو استأجر ليذبح شاة جار له فذبح ثم ضمن الذابح للجار لم يرجع به على الآمر ، وكذا لو استأجرهم ليبنوا بيتا في وسط الطريق ثم سقط فأتلف شيئا لم يرجعوا به على الآمر . وفي الاستحسان يكون الضمان على الآمر لأن هذا الأمر صحيح من حيث إن فناء داره مملوك له من وجه على معنى أنه يباح له الانتفاع بشرط السلامة ، ولكنه غير صحيح من حيث إنه غير مملوك له حيث لا يجوز له بيعه ، فمن حيث إن الأمر صحيح يكون قرار الضمان على الآمر بعد الفراغ من العمل ، ومن حيث إنه فاسد يكون الضمان على العامل قبل الفراغ من العمل عملا بهما .

وإظهار شبه الصحة بعد الفراغ من العمل أولى من إظهاره قبل الفراغ ، لأن أمر الآمر إنما صح من حيث إنه يملك الانتفاع بفناء داره ، وإنما يحصل له المنفعة بعد الفراغ من العمل ، كذا ذكر جمهور الشراح هنا . أقول : هذه الوجوه في هذه المسألة بهذا التفصيل والبيان ، وإن كان مما قاله شيخ الإسلام وارتضاء جمهور الشراح لكنه مشكل عندي من وجوه : الأول أنهم قالوا في تعليل جواب القياس في الوجه الثاني والثالث من الوجوه التي ذكروها لأنه أمرهم بما لا يملك مباشرته بنفسه وقد علموا بفساد الأمر ، وهو إنما يتم فيما إذا أخبرهم بأن ليس له حق في ذلك لا فيما إذا لم يخبرهم بذلك ، إذ لا علم لهم بفساد الأمر في هذه الصورة ، وقد سووهما في وضع المسألة في الوجه الثاني والثالث حيث قالوا : وأخبرهم أنه ليس له حق إشراع الجناح من القديم أو لم يخبرهم . والثاني أنهم قالوا في بيان وجه الاستحسان في الوجه الثالث أن أمره غير صحيح من حيث إن فناء داره غير مملوك له حيث لا يجوز له بيعه ، وجعلوا الضمان من هذه الحيثية على العامل قبل الفراغ من العمل ، مع أن مدخلية هذه الحيثية في فساد أمره فيما نحن فيه غير ظاهرة ، لأنه لم يأمرهم ببيعه ولم يفعلوا ذلك حتى يفسد أمره بذلك لكونه غير مملوك له من هذه الحيثية ويجب الضمان على الفعلة قبل الفراغ من العمل ، بل أمرهم بالانتفاع بذلك بإشراع الجناح إليه وفعلوا ذلك ، ولا شك أنه مملوك له من حيث الانتفاع به كما صرحوا به فكيف يفسد أمره من هذه الحيثية حتى يجب الضمان عليهم قبل الفراغ من العمل بناء على فساد الأمر .

والثالث أنهم قالوا في الوجه الأول الضمان على الأجراء ويرجعون به على الآمر قياسا واستحسانا سواء سقط قبل الفراغ من العمل أو بعده . وقالوا في الوجه الثالث : وفي الاستحسان يكون الضمان [ ص: 311 ] على الآمر ، والظاهر منه أن يكون الضمان في الوجه الثالث في جواب الاستحسان على الآمر ابتداء مع أن الفقه يقتضي أولوية كون الضمان في الوجه الأول أيضا إذا كان السقوط بعد فراغهم من العمل على الآمر ابتداء ، لأن الفعلة كانوا فيه مغرورين بقول الآمر : إنه ملكي أو لي حق ذلك الفعل من القديم ، بخلاف الوجه الثالث في الغرور مع الاشتراك بينهما في سائر الأمور كما ترى . ثم أقول : تقرير المصنف هذه المسألة وتعليلها لا يوافق ما ذكره الشراح هنا من التفصيل المنقول عن شيخ الإسلام ، بل يأباه جدا .

قال المصنف : جعل المسألة على وجهين : أحدهما السقوط قبل فراغهم من العمل ، والآخر السقوط بعد فراغهم منه ، وجعل حكم أحدهما مخالفا لحكم الآخر مطلقا . وقال في تعليل الأول : إن التلف كان بفعلهم ، وإن فعلهم انقلب قتلا حتى وجب عليهم الكفارة ، والقتل غير داخل في عقده فلم يتسلم فعلهم إلى رب الدار فاقتصر عليهم . ولا يخفى أن هذا التعليل يقتضي أن يكون الضمان عليهم ، وأن لا يرجعوا به على الآمر في صورة السقوط قبل فراغهم من العمل مطلقا : أي في الوجه الأول أيضا من الوجوه التي ذكرها الشراح نقلا عن شيخ الإسلام وهو ما إذا أخبرهم الآمر بأن له حقا في ذلك ، لأن فعلهم لما انقلب قتلا وصار غير داخل في عقد الآمر ولم يتسلم إليه بل اقتصر عليهم كان إخباره لهم بأن له حقا في ذلك ، وعدم إخباره لهم بذلك سيتبين قطعا ، ويقتضي أن لا يتم في صورة السقوط قبل الفراغ من العمل التعليل الذي ذكروه لرجوعهم بالضمان على الآمر قياسا واستحسانا في الوجه الأول من الوجوه التي ذكروها سواء سقط قبل الفراغ من العمل أو بعده بقولهم لأن الضمان وجب على العامل بأمر الآمر فكان له أن يرجع به عليهم ، فإن فعلهم لما انقلب قتلا في صورة السقوط قبل فراغهم من العمل صار مخالفا لأمر الآمر خارجا عن عقده فلم يكن بأمر الآمر ، فما كان وجوب الضمان عليهم بأمره بل كان بفعل أنفسهم ، ويقتضي أيضا أن لا يتم تنظيرهم الوجه الأول بما لو استأجر غيره ليذبح شاة له ثم استحقت بعد الذبح فللمستحق أن يضمن الذابح ويرجع الذابح به على الآمر في صورة السقوط قبل الفراغ من العمل ، فإن فعل الذابح هناك لم ينقلب ما هو خارج عن العقد بل وقع على ما هو الداخل في العقد ، فإذا ضمن الذابح كان له حق الرجوع على الآمر بحكم التغرير ، بخلاف ما نحن فيه في صورة السقوط قبل الفراغ من العمل كما عرفت آنفا .

ثم إن بعض الفضلاء قال هنا : لا يقال فرق بين ما ذكر في الكتاب وهذا المنقول ، فإن ما ذكر في الكتاب محمله المباشرة ولهذا تجب الكفارة ، فلا فرق بين علم العملة وعدم علمهم بفساد الأمر في وجوب الضمان قبل الفراغ ، ولا تتصور المباشرة بعده فيكون بالتسبيب . لأنا نقول : إشراع الجناح مطلقا مباشرة فلهذا شبه بذبح الشاة ، وسيجيء من الشارح أيضا : يعني صاحب العناية . أقول : جوابه ليس بسديد ، إذ لم يقل أحد بأن إشراع الجناح مباشرة للقتل في صورة السقوط بعد الفراغ من العمل ، كيف ولو كان مباشرة له بعده فلا يخلو من أن يكون مباشرة من الفعلة أو من الآمر ، فلو كان مباشرة من الفعلة لوجب عليهم الضمان والكفارة قطعا كما في السقوط قبل الفراغ ، ولم يجب عليهم بعده شيء منهما بل وجب الضمان على الآمر وهو رب الدار استحسانا كما ذكر في الكتاب ، ولو كان مباشرة من الآمر لوجب عليه الكفارة لا محالة ولم يقل به أحد ، والتشبيه بذبح الشاة إنما وقع في صورة السقوط قبل الفراغ لا في صورة السقوط بعده ، والذي سيجيء من الشارح أيضا لا بد وأن يحمل على كون إشراع الجناح مباشرة في الصورة الأولى لا في الصورة الثانية .

وأما كون إشراع الجناح مباشرة مطلقا لفعل ما وإن لم يكن مباشرة للقتل في صورة السقوط بعد الفراغ فبمعزل عما فيه الكلام وغير مفيد في دفع السؤال الذي ذكره كما لا يخفى ( قوله ولو تعمد المرور في موضع صب الماء فسقط لا يضمن الراش ) [ ص: 312 ] أقول : في تحرير المصنف هنا شيء وهو أن الظاهر من قوله فيما مر آنفا ، وكذا إذا رش الماء بعد قوله وكذا إذا صب الماء أن مسألة رش الماء تغاير مسألة صب الماء ، وقد ذكر هنا الصب في أصل المسألة حيث قال : ولو تعمد المرور في موضع صب الماء وذكر الرش في جوابها حيث قال : لا يضمن الراش فلم يطابق جواب المسألة وضع المسألة . ويمكن أن يعتذر عنه بأنه إنما فعل هكذا إيماء إلى اتحاد مسألتي الصب والرش في هذا الحكم مع الاعتماد إلى العلم بمغايرتهما مما ذكره من قبل ( قوله وإذا استأجر أجيرا ليبني له في فناء حانوته فتعقل به إنسان بعد فراغه فمات يجب الضمان على الآمر استحسانا ) قال في العناية : لم يتعرض المصنف بأن ذلك إذا علم الأجير أن الفناء لغير الآمر أو إذا لم يعلم .

وفي الجامع الصغير للإمام المحبوبي ما يدل على أن هذا الجواب الذي ذكره في الكتاب فيما إذا كان الأجير يحسب أنه للمستأجر حيث قال : وإن استأجر رجلا ليحفر له بئرا في الفناء فحفر ومات فيه إنسان أو دابة والفناء لغيره فإن كان الأجير عالما به فالضمان على الأجير وإن لم يعلم الأجير أن الفناء للغير فالضمان على المستأجر لأن الأجير لم يعلم بفساد الأمر انتهى . أقول : ما ذكره الإمام المحبوبي في جامعه وإن دل على أن الجواب الذي ذكره في الكتاب فيما إذا كان الأجير يحسب أن الفناء للمستأجر إلا أنه يدل بإطلاقه على أن الجواب في موت إنسان فيه بعد فراغ الأجير من العمل وقبله سواء ، والذي ذكر في الكتاب مقيد بكون موته بعد تعقله به بعد فراغ الأجير ولم يتعرض له الشارح أيضا فتبصر .




الخدمات العلمية