الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولو وجد رجل قتيلا في دار نفسه فديته على عاقلته لورثته عند أبي حنيفة . وقال أبو يوسف ومحمد وزفر لا شيء فيه ) لأن الدار في يده حين وجد الجريح [ ص: 392 ] فيجعل كأنه قتل نفسه فيكون هدرا . وله أن القسامة إنما تجب بناء على ظهور القتل ، ولهذا لا يدخل في الدية من مات قبل ذلك ، وحال ظهور القتل الدار للورثة فتجب على عاقلتهم ، بخلاف المكاتب إذا وجد قتيلا [ ص: 393 ] في دار نفسه لأن حال ظهور قتله بقيت الدار على حكم ملكه فيصير كأنه قتل نفسه فيهدر دمه .

التالي السابق


( قوله ولو وجد رجل قتيلا في دار نفسه فديته على عاقلته لورثته عند أبي حنيفة ) قال صاحب العناية : اعلم أن المصنف قال فديته على عاقلته لورثته عند أبي حنيفة ، ثم قال في دليله وحال ظهور القتل الدار للورثة فتجب على عاقلتهم ، وفيه تناقض ظاهر ومخالفة بين الدليل والمدلول . ودفع ذلك بأن يقال : عاقلة الميت إما أن تكون عاقلة الورثة أو غيرهم ، فإن كان الأول كان الدية على عاقلة الميت وهم عاقلة الورثة فلا تنافي بينهم ، وإن كان الثاني كان الدية على عاقلة الورثة ، ولما كان كل منهما ممكنا أشار إلى الأول في حكم المسألة وإلى [ ص: 392 ] الثاني في دليلها . وعلى التقدير الثاني يقدر في قوله فالدية على عاقلته مضاف : أي على عاقلة ورثته ، إلى هنا كلامه .

أقول : ما ذكره في الدفع كلام مشوش خال عن التحصيل سيما قوله وعلى التقدير الثاني يقدر في قوله فالدية على عاقلته مضاف : أي على عاقلة ورثته ، فإن حكم المسألة المذكورة وهو وجوب الدية على العاقلة عند أبي حنيفة يعم الصورتين قطعا : أي صورة إن كان عاقلة الميت عاقلة الورثة .

وصورة إن كان عاقلة الميت غير عاقلة الورثة ، فما معنى تخصيص حكمها بالصورة الأولى بمجرد الإشارة إلى إمكانها ؟ ثم إن تقدير المضاف وعدم تقديره متناقضان لا يمكن اجتماعهما في محل واحد حتى يقدر المضاف في قول المصنف فالدية على عاقلته على التقدير الثاني ولم يقدر على التقدير الأول كما يشعر به قوله وعلى التقدير الثاني يقدر في قوله فالدية على عاقلته مضاف : أي على عاقلة ورثته ، فالوجه في الدفع أن يقال : المضاف مقدر ألبتة في قوله فالدية على عاقلته : أي على عاقلة ورثته فيوافق الدليل ويتناول الصورتين معا . أما تناوله الصورة الثانية وهي إن كان عاقلة الميت غير عاقلة الورثة فظاهر ، وأما تناوله الصورة الأولى وهي إن كان عاقلة الميت عين عاقلة الورثة فلأن عاقلته وعاقلتهم إذا اتحدتا يصح نسبتهم إلى الورثة كما يصح نسبتهم إلى الميت ، بل تكون نسبتهم إلى الورثة أولى هاهنا لأن الدار لما كانت حال ظهور القتل للورثة لا للميت وكان وجوب القسامة والدية بناء على ظهور القتل كما ذكره المصنف في الدليل كانت الدية على عاقلة الورثة لا على عاقلة الميت .

وقال صاحب النهاية في شرح قول المصنف فديته على عاقلته لورثته : أي على عاقلة ورثته لورثته لأنه لما وجد قتيلا في الدار المملوكة لورثته لا له لأنه ميت والميت ليس من أهل الملك كانت الدية عليهم ، وإنما قال الدية على عاقلته بناء على الظاهر ، وهو أن عاقلة الوارث والمورث متحدة ، وإن كان في موضع تختلف العاقلة ينبغي على قياس هذه الطريقة وهي أن الدار مملوكة للورثة لا للميت أن تكون الدية على عاقلة الورثة وهي الأصح ، وعلى قياس طريقة أن غيره لو وجد قتيلا فيها كانت القسامة عليه دون عاقلته يجب أن تكون الدية على عاقلة القتيل ، كذا في المبسوط انتهى .

أقول : لا يذهب على ذي فطرة سليمة أن هذا أولى مما ذكره صاحب العناية ، إلا أن في تقريره أيضا شيئا من الركاكة ، فالأرجح ما قررناه من قبل تأمل ترشد .

( قوله وله أن القسامة إنما تجب بناء على ظهور القتل ولهذا لا يدخل في الدية من مات قبل ذلك ، وحال ظهور القتل الدار للورثة فتجب على عاقلتهم ) اعترض عليه بأن الدية إذا وجبت على عاقلة الورثة فإنما وجبت للورثة فكيف يستقيم أن يعقلوا عنهم لهم ، [ ص: 393 ] وأجيب بأنها تجب للمقتول حتى تقضى منها ديونه وتنفذ وصاياه ثم يخلفه الوارث فيه وهو نظير الصبي والمعتوه إذا قتل أباه تجب الدية على عاقلته وتكون ميراثا له كذا في العناية وعليه أكثر الشراح .

أقول : يرد على ظاهر هذا الجواب أنه ينافي ما ذكر في وضع جواب المسألة ، فإن المذكور فيه فديته على عاقلته لورثته عند أبي حنيفة ، ومقتضى جواب الاعتراض أن تكون ديته له لا لورثته . ويمكن دفعه بأن المراد بالمذكور في وضع جواب المسألة أن دية المقتول على عاقلته لورثته في ثاني الحال : أي تصير لهم بالخلافة عن المقتول بعد أن كانت له أولا ، ومثل هذا التسامح في العبارة ليس بعزيز في كلمات الثقات . ثم أقول : بقي هنا إشكال قوي ، وهو أنه قد مر أن دعوى ولي القتيل شرط لوجوب القسامة والدية وولي القتيل فيما نحن فيه هو الورثة فلا بد من دعواهم ، فيلزم أن تكون دعواهم على أنفسهم لأن الدار كانت لهم حال ظهور القتل ، ولا يخفى ما فيه . ويمكن دفعه أيضا بتمحل فليتأمل . وأجاب صاحب الغاية عن أصل الاعتراض بوجه آخر حيث قال : قلت العاقلة أعم من أن تكون ورثة أو غير ورثة ، فما وجب على غير الورثة من العاقلة يجب للورثة منهم انتهى . أقول : ليس هذا بشيء . أما أولا فلأن الدية اسم لمجموع ما قدره الشرع من الأنواع المخصوصة من المال كما تقرر في أول الديات ، وبعض ذلك لا يسمى دية كما صرحوا به ، فلو كان ما يجب للورثة من العاقلة ما وجب على غير الورثة منهم فقط لما تم جواب هذه المسألة وهو قوله فديته على عاقلته لورثته ، [ ص: 394 ] لأن دية المقتول مجموع ما يجب على العاقلة كلهم لا ما يجب على بعض منهم . وأما ثانيا فلأن المحذور المذكور في الاعتراض المزبور إنما هو أن يكون الذين عقلوا عنهم هم الذين عقلوا لهم وهم الورثة كما ينادي عليه قول المعترض فكيف يستقيم أن يعقلوا عنهم لهم ، لا أن يكون من وجبت الدية عليهم عين من وجبت لهم حتى يقال إن من وجبت الدية عليهم غير الورثة ومن وجبت لهم هم الورثة فلا اتحاد . على أن العاقلة إذا كانت أعم من أن تكون ورثة أو غير ورثة كما صرح به ذلك المجيب تكون الورثة أيضا ممن وجبت عليهم الدية ، لأن الدية إنما تجب على العاقلة كلهم لا على بعض منهم فيلزم اتحاد من وجبت الدية عليهم . ومن وجبت لهم بالنظر إلى الورثة لا محالة فلا يصح الجواب المزبور على كل حال كما لا يخفى .




الخدمات العلمية