الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة السابعة

          ذهب الأكثرون من القائلين بالإجماع إلى أن الإجماع المحتج به غير مختص بإجماع الصحابة بل إجماع أهل كل عصر حجة خلافا لداود وشيعته من أهل الظاهر ، ولأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه [1]

          والأول هو المختار ويدل عليه أن حجة كون الإجماع حجة غير خارجة كما ذكرناه من الكتاب والسنة والمعقول ، وكل واحد منها لا يفرق بين أهل عصر وعصر ، بل هو متناول لأهل كل عصر حسب تناوله لأهل عصر الصحابة ، فكان إجماع أهل كل عصر حجة .

          فإن قيل : حجة كون الإجماع حجة غير خارجة عن الآيات والأخبار السابق ذكرها ، وقوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ، وقوله : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ، فلا يكون متناولا لغيرهم ، وقوله تعالى : ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ) والأخبار على [2] عصمة الأمة خاصة [ ص: 231 ] بالصحابة الموجودين في زمن النبي عليه السلام ، إذا هم كل المؤمنين وكل الأمة ، فإن من لم يوجد بعد ، لا يكون موصوفا بالإيمان وبكونه من الأمة .

          وأما التابعون وكذلك من بعدهم إذا أجمعوا على حكم ، فليس هم كل المؤمنين ولا كل الأمة ، فلا يكون الخطاب متناولا لهم وحدهم ، بل مع من تقدم من المؤمنين قبلهم ضرورة اتصافهم بذلك حالة وجودهم ، وبموتهم لم يخرجوا عن كونهم من المؤمنين ومن الأمة .

          وكذلك فإنه لو ذهب واحد من الصحابة إلى حكم ، واتفق التابعون على خلافه لم يكن إجماعهم منعقدا ، ولو خرج بموته عن الأمة والمؤمنين لما كان كذلك .

          وإذا لم يكن التابعون كل الأمة ولا كل المؤمنين ، فما اتفقوا عليه لا يكون هو قول كل الأمة ولا كل المؤمنين ، فلا يكون حجة .

          وسواء وجد لمن تقدم قول أو لم يوجد ، فمخالفهم لا يكون مخالفا لكل الأمة ولا لكل المؤمنين ، فلا يكون بذلك مستحقا للذم والتوعد .

          سلمنا دلالة الآيات والأخبار على انعقاد إجماع من بعد الصحابة حجة لكنه معارض بما يدل على عدمه ، وبيانه من ستة أوجه :

          الأول : أن إجماع التابعين لا بد له من دليل ، وذلك الدليل إما أن يكون نصا أو إجماعا أو قياسا .

          فإن كان إجماع من تقدم فالحكم ثابت بإجماع الصحابة لا بإجماع التابعين .

          وإن كان قياسا ، فيستدعي أن يكون متفقا عليه بين جميع التابعين ليكون مناط إجماعهم ، وليس كذلك لوقوع الخلاف فيه فيما بينهم .

          وإن كان نصا ، فلا بد وأن تكون الصحابة عالمة به ضرورة أنه لا طريق إلى معرفة التابعين به إلا من جهة الصحابة ، ولو كان ذلك دليلا يمكن التمسك به في إثبات الحكم لما تصور تواطؤ الصحابة على تركه وإهماله .

          الثاني : هو أن الأصل أن لا يرجع إلى قول أحد سوى الصادق المؤيد بالمعجزة لتطرق الخطأ والكذب إلى من عداه ، غير أنه لما ورد الثناء من النبي عليه السلام [ ص: 232 ] على الصحابة بقوله : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم [3] " ، وقوله : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " ، والذم لأهل الأعصار المتأخرة بقوله عليه السلام ثم يفشو الكذب ، وأن الرجل يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ، وأن الواحد منهم يحلف على ما لا يعلم ويشهد قبل أن يستشهد ، وأن الناس يكونون كالذئاب ، إلى غير ذلك من أنواع الذم التي سبق ذكرها [4] ، أوجب قصر الاحتجاج على إجماع الصحابة دون غيرهم .

          الثالث : أن الاحتجاج بالإجماع إنما يمكن بعد الاطلاع على قول كل واحد من أهل الحل والعقد ومعرفته في نفسه .

          وذلك إنما يتصور في حق الصحابة ; لأن أهل الحل والعقد منهم كانوا معروفين مشهورين محصورين لقلتهم وانحصارهم في قطر واحد ، بخلاف التابعين ، ومن بعدهم لكثرتهم وتشتتهم في البلاد المتباعدة .

          الرابع : أن الإجماع من الصحابة واقع على أن كل مسألة لا تكون مجمعا عليها ولا فيها نص قاطع أنه يجوز الاجتهاد فيها .

          فإذا لم يكن إجماع من الصحابة ، ولا ثم نص قاطع ، وإلا لما ساغ من الصحابة تركه وإهماله ، فتكون المسألة مجمعا على جواز الاجتهاد فيها منهم ، فلو أجمع التابعون على حكم تلك المسألة فإن منعنا من اجتهاد غيرهم فيها ، فقد خرقنا إجماع الصحابة وإن جوزنا ، فإجماع التابعين لا يكون حجة وهو المطلوب .

          الخامس : أنه لو كان في الأمة من هو غائب فإنه وإن لم يكن له في المسألة قول بنفي ، ولا إثبات لا ينعقد الإجماع دونه في تلك المسألة لكونه لو كان حاضرا لكان له فيها قول ، فكذلك الميت من الصحابة قبل التابعين .

          [ ص: 233 ] السادس : أنه لو كان قد خالف واحد من الصحابة فإن إجماع التابعين بعده لا ينعقد ، وإذا لم ينقل خلاف من تقدم لا ينعقد الإجماع لاحتمال أن أحدا ممن تقدم خالف ولم ينقل خلافه ، وإذا احتمل واحتمل ، فالإجماع لا يكون متيقنا .

          والجواب عن السؤال الأول : قولهم في الآيات إنها خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام يلزمهم عليه أن لا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجودا عند نزول هذه الآيات ; لأن إجماعهم ليس إجماع جميع المخاطبين وقت نزولها ، وأن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزولها لكونه خارجا عن المخاطبين .

          وقد أجمعنا على أن إجماع من بقي من الصحابة بعد رسول الله يكون حجة .

          قولهم : التابعون ليس هم كل الأمة ولا كل المؤمنين يلزم عليه أن لا ينعقد إجماع من بقي من الصحابة بعد موت رسول الله ; لأن من مات من الصحابة أو استشهد في حياة رسول الله داخل في مسمى المؤمنين والأمة ، وهو خلاف المجمع عليه بين القائلين بالإجماع وليس ذلك ، إلا لأن الماضي إذا لم يكن له قول غير معتبر كما أن المستقبل غير منتظر .

          وعلى هذا فنقول : إنه إذا ذهب واحد من الصحابة إلى حكم في مسألة ثم مات وأجمع التابعون على خلافه في تلك المسألة ، فقد قال بعض الأصوليين : إنه ينعقد إجماع التابعين ولا اعتبار بقول الماضي ، وليس بحق ؛ لأنه يلزم منه أنه إذا أجمعت الصحابة على حكم ، ثم ماتوا وأجمع التابعون على خلاف إجماع الماضين ، أنه ينعقد وهو محال مخالف لإجماع القائلين بالإجماع .

          وإنما الحق في ذلك أن يقال : إذا حكم الواحد من الصحابة بحكم ثم حكم التابعون بخلافه ، فحكم التابعين ليس هو حكم جميع الأمة المعتبرين في تلك المسألة التي وقع الخوض فيها .

          وإن كان حكمهم في مسألة لم يتقدم فيها خلاف بعض الصحابة فهو حكم كل الأمة المعتبرين ، وهذا كما لو أفتى الصحابي بحكم ثم مات ، وأجمع باقي الصحابة على خلافه فإنه لا ينعقد إجماعهم ، وإن انعقد إجماعهم إذا مات من غير مخالفة ; لأن حكمهم في الأول ليس هو حكم كل الأمة المعتبرين بخلاف حكمهم في الثاني .

          [ ص: 234 ] والجواب عن المعارضة الأولى أنه وإن كان دليل التابعين معلوما للصحابة ، غير أنه لا يمتنع أن تكون واقعة الحكم لم تقع في زمن الصحابة فلم يتعرضوا لحكمها ، وإنما وقعت في زمن التابعين فتعرضوا لإثبات حكمها بناء على ما وجدوه من الدليل الذي كان معلوما للصحابة .

          وعن الثانية : أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة لا تفرق بين أهل عصر وعصر ، وقوله عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم [5] " لا يدل على عدم الاهتداء بغيرهم إلا بطريق مفهوم اللقب ، والمفهوم ليس بحجة فضلا عن مفهوم اللقب على ما سيأتي في مسائل المفهوم .

          وكذلك الكلام في قوله : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " كيف وأن ذلك مما يوجب كون إجماع أبي بكر وعمر مع مخالفة باقي الصحابة لهم حجة قاطعة ، وهو خلاف الإجماع من الصحابة ؟

          قولهم : إنه ذم أهل الأعصار المتأخرة .

          قلنا : غاية ما في ذلك غلبة ظهور الفساد والكذب ، وليس فيه ما يدل على خلو كل عصر ممن تقوم الحجة بقوله [6] ، وأنه [7] إذا اتفق أهل ذلك العصر على حكم لا يكونون معصومين عن الخطأ فيه .

          وعن الثالثة : ما سبق في مسألة تصور الاطلاع على إجماعهم ومعرفتهم .

          وعن الرابعة : أنه إن أجمع الصحابة على تجويز الخلاف مطلقا فلا يتصور انعقاد إجماع التابعين على الحكم في تلك المسألة ، لما فيه من التعارض بين الإجماعين القاطعين ، وإن أجمعوا على تسويغ الاجتهاد مشروطا بعدم الإجماع فلا تناقض .

          وعن الخامسة : أنها منتقضة بالواحد من الصحابة ، فإنه لو مات انعقد الإجماع [ ص: 235 ] من باقي الصحابة دونه ولو كان غائبا لم ينعقد ، وإنما كان كذلك ; لأن الغائب في الحال له أهلية القول والحكم والموافقة والمخالفة بخلاف الميت .

          وعن السادسة : أنها باطلة بالميت الأول من الصحابة ; فإنه يحتمل أنه خالف ولم ينقل خلافه ، ومع ذلك فإن إجماع باقي الصحابة بعده يكون منعقدا ، كيف وإن النظر إلى مثل هذه الاحتمالات البعيدة مما لا التفات إليه .

          وإلا لما انعقد إجماع الصحابة لاحتمال أن يكون واحد منهم قد أظهر الموافقة وأبطن المخالفة لأمر من الأمور ، كما نقل عن ابن عباس في موافقته لعمر في مسألة العول وإظهار النكير بعده .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية