الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 329 ] المسألة الثامنة

          في تخصيص العموم بفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

          وقد اختلف القائلون بكون فعل الرسول حجة على غيره ، هل يجوز تخصيصه للعموم أم لا ؟ فأثبته الأكثرون كالشافعية والحنفية والحنابلة ونفاه الأقلون كالكرخي .

          وتحقيق الحق من ذلك يتوقف على التفصيل ، وهو أن نقول : العام الوارد إما أن يكون عاما للأمة والرسول كما لو قال - صلى الله عليه وسلم - : الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ حرام على كل مسلم .

          وإما أن يكون عاما للأمة دون الرسول كما لو قال - صلى الله عليه وسلم - : نهيتكم عن الوصال أو استقبال القبلة في قضاء الحاجة أو كشف الفخذ ، فإن كان الأول فإذا رأيناه قد واصل أو استقبل القبلة في قضاء الحاجة أو كشف فخذه فلا خلاف في أن فعله يدل على إباحة ذلك الفعل في حقه ، ويكون مخرجا له عن العموم ومخصصا .

          وأما بالنسبة إلى غيره فإما أن نقول بأن اتباعه في فعله والتأسي به واجب على كل من سواه ، أو لا نقول ذلك .

          فإن قيل بالأول ، فيلزم منه رفع حكم العموم مطلقا في حقه بفعله وفي حق غيره بوجوب التأسي به ، فلا يكون ذلك تخصيصا ، بل نسخا لحكم العموم مطلقا بالنسبة إليه وإلى غيره .

          وإن قيل بالثاني ، كان ذلك تخصيصا له عن العموم دون أمته .

          وأما إن كان عاما للأمة دون الرسول ، ففعله لا يكون مخصصا لنفسه عن العموم لعدم دخوله فيه .

          وأما بالنسبة إلى الأمة ، فإن قيل أيضا بوجوب اتباع الأمة له في فعله ، كان ذلك أيضا نسخا عنهم لا تخصيصا كما سبق .

          وإن لم يكن ذلك واجبا عليهم فلا يكون فعله مخصصا للعموم أصلا ، لا بالنسبة إليه لعدم دخوله في العموم ، ولا بالنسبة إلى الأمة .

          وعلى هذا التفصيل فلا أرى للخلاف على هذا التخصيص [1] بفعل النبي وجها .

          [ ص: 330 ] أما إذا كان هو المخصص عن العموم وحده فلعدم الخلاف فيه ، وأما في باقي الأقسام فلعدم تحقق التخصيص .

          بل إن وقع الخلاف في باقي الأقسام ، هل فعله يكون ناسخا لحكم العموم فيها ؟ فخارج عن الخوض في باب التخصيص ، والأظهر في ذلك إنما هو الوقف من جهة أن دليل وجوب التأسي ، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو بدليل عام للأمة ، وهو مساو للعموم الآخر في عمومه ، وليس العمل بأحدهما وإبطال الآخر أولى من العكس . [2]

          فإن قيل : بل العمل بالفعل أولى ؛ لأنه خاص ، والخاص مقدم على العام قلنا : الفعل لم يكن دليلا على لزوم الحكم في حق باقي الأمة بنفسه ، بل لأدلة عامة موجبة على الأمة لزوم الاتباع .

          [ ص: 331 ] فإن قيل : إلا أن الفعل الخاص مع العمومات الموجبة للتأسي أخص من اللفظ العام مطلقا ، ولأنه متأخر عن العام ، والمتأخر أولى بالعمل .

          قلنا : أما الفعل فلا نسلم أن له دلالة على وجوب تأسي الأمة بالنبي بوجه من الوجوه ، بل الموجب شيء آخر ، وهو مساو للعام الآخر في عمومه ، وسواء كان الفعل خاصا أو عاما .

          وذلك الموجب للتأسي غير متأخر عن العام ، بل محتمل للتقدم والتأخر من غير ترجيح ، حتى إنه لو علم التاريخ وجب العمل بالمتأخر منهما . [3]

          كيف وإن القول بوجوب التأسي متوقف على وجود الفعل ، وعلى الدليل الدال على التأسي ، ولا كذلك للعام الآخر ، وما يتوقف العمل به على أمرين يكون أبعد مما لا يتوقف العمل به إلا على شيء واحد ؟ [4]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية