الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 243 ] المسألة العاشرة

          اتفق الأكثرون على أن إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم خلافا لمالك ، فإنه قال : يكون حجة ، ومن أصحابه من قال إنما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم ، ومنهم من قال : أراد به أن يكون إجماعهم أولى ، ولا تمتنع مخالفته .

          ومنهم من قال : أراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          والمختار مذهب الأكثرين ، وذلك أن الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة متناولة لأهل المدينة والخارج عن أهلها وبدونه لا يكونون كل الأمة ولا كل المؤمنين ، فلا يكون إجماعهم حجة على ما عرف في المسائل المتقدمة .

          احتج من نصر مذهب مالك بالنص والمعقول ، أما النص فقوله عليه السلام : " إن المدينة طيبة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد " والخطأ من الخبث فكان منفيا عنها .

          وقال عليه السلام : " إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " ، وقال عليه السلام : " لا يكايد أحد أهل المدينة إلا انماع كما ينماع الملح في الماء " .

          وأما المعقول فمن ثلاثة أوجه :

          الأول : هو أن المدينة دار هجرة النبي عليه السلام ، وموضع قبره [1] ، ومهبط الوحي ومستقر الإسلام ومجمع الصحابة ، فلا يجوز أن يخرج الحق عن قول أهلها .

          الثاني : أن أهل المدينة شاهدوا التنزيل ، وسمعوا التأويل وكانوا أعرف بأحوال الرسول من غيرهم ، فوجب أن لا يخرج الحق عنهم .

          الثالث : أن رواية أهل المدينة مقدمة على رواية غيرهم ، فكان إجماعهم حجة على غيرهم .

          والجواب عن النص الأول أنه وإن دل على خلوص المدينة عن الخبث ، فليس فيه ما يدل على أن من كان خارجا عنها لا يكون خالصا عن الخبث ، ولا على كون إجماع أهل المدينة دونه حجة ، وتخصيصه للمدينة بالذكر إنما كان إظهارا لشرفها وإبانة لخطرها وتمييزا لها عن غيرها لما اشتملت عليه المذكورة في الوجه الأول من المعقول ، وهو الجواب عن باقي النصوص .

          [ ص: 244 ] وعن الوجه الأول من المعقول أن غايته اشتمال المدينة على صفات موجبة لفضلها وليس في ذلك ما يدل على انتفاء الفضيلة عن غيرها ولا على الاحتجاج بإجماع أهلها .

          ولهذا فإن مكة أيضا مشتملة على أمور موجبة لفضلها كالبيت المحترم ، والمقام وزمزم ، والحجر المستلم ، والصفا والمروة ومواضع المناسك ، وهي مولد النبي عليه السلام ومبعثه ومولد إسماعيل [2] ومنزل إبراهيم ، ولم يدل ذلك على الاحتجاج بإجماع أهلها على مخالفيهم إذ لا قائل به ، وإنما الاعتبار بعلم العلماء واجتهاد المجتهدين ولا أثر للبقاع في ذلك .

          وعن الوجه الثاني أن ذلك لا يدل على انحصار أهل العلم فيها والمعتبرين من أهل الحل والعقد ومن تقوم الحجة بقولهم ، فإنهم كانوا منتشرين في البلاد متفرقين في الأمصار وكلهم فيما يرجع إلى النظر والاعتبار سواء ، ولهذا قال عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم [3] " ولم يخصص ذلك بموضع دون موضع لعدم تأثير المواضع في ذلك .

          وعن الوجه الثالث أنه تمثيل من غير دليل موجب للجمع بين الرواية والدراية .

          كيف وإن الفرق حاصل ، وذلك من جهة الإجمال والتفصيل .

          وأما الإجمال : فهو أن الرواية يرجح فيها بكثرة الرواة حتى إنه يجب على كل مجتهد الأخذ بقول الأكثر بعد التساوي في جميع الصفات المعتبرة في قبول الرواية ، ولا كذلك في الاجتهاد فإنه لا يجب على أحد من المجتهدين الأخذ بقول الأكثر من المجتهدين ولا بقول الواحد أيضا .

          وأما من جهة التفصيل : فهو أن الرواية مستندها السماع ووقوع الحوادث المروية في زمن النبي عليه السلام وبحضرته .

          ولما كان أهل المدينة أعرف بذلك وأقرب إلى معرفة المروي كانت روايتهم أرجح .

          وأما الاجتهاد : فإن طريقه النظر والبحث بالقلب والاستدلال على الحكم ، وذلك مما لا يختلف بالقرب والبعد ، ولا يختلف باختلاف الأماكن .

          وعلى ما ذكرناه فلا يكون إجماع أهل الحرمين - مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة - حجة على مخالفيهم وإن خالف فيه قوم ، لما ذكرناه من الدليل .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية