الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ذكر تلبيسه عليهم بإدخالهم في الجدل كلام الفلاسفة واعتمادهم على تلك الأوضاع

ومن ذلك إيثارهم للقياس على الحديث المستدل به في المسألة ليتسع لهم المجال في النظر. وإن استدل أحد منهم بالحديث هجن ومن الأدب تقديم الاستدلال بالحديث. ومن ذلك أنهم جعلوا النظر جل اشتغالهم ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن وسماع الحديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير. وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة. ومسائل الخلاف وإن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب. ومن لم يطلع على أسرار سير السلف وحال الذي تمذهب له لم يمكنهم سلوك طريقهم وينبغي أن يعلم أن الطبع لص فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم فإذا نظر في سير القدماء زاحمهم وتأدب بأخلاقهم، وقد كان بعض السلف يقول: حديث يرق له قلبي أحب إلي من مائة قضية من قضايا شريح وإنما قال هذا لأن رقة القلب مقصودة ولها أسباب ومن ذلك أنهم اقتصروا على المناظرة وأعرضوا عن حفظ المذهب وباقي علوم الشرع فترى الفقيه المفتي يسأل عن آية أو حديث فلا يدري وهذا عين فأين الأنفة من التقصير، ومن ذلك أن المجادلة إنما وضعت ليستبين الصواب وقد كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق وقد كانوا ينتقلون من دليل إلى دليل وإذا خفي على أحدهم شيء نبهه الآخر [ ص: 117 ] لأن المقصود كان إظهار الحق فصار هؤلاء إذا قاس الفقيه على أصل بعلة يظنها. فقيل له ما الدليل على أن الحكم في الأصل معلل بهذه العلة فقال هذا الذي يظهر لي فإن ظهر لكم ما هو أولى من ذلك فاذكروه فإن المعترض لا يلزمني ذكر ذلك وقد صدق في أنه لا يلزمه ولكن فيما ابتدع من الجدل بل في باب النصح وإظهار الحق يلزمه، ومن ذلك أن أحدهم يتبين له الصواب مع خصمه ولا يرجع ويضيق صدره كيف ظهر الحق مع خصمه وربما اجتهد في رده مع علمه أنه الحق، وهذا من أقبح القبيح لأن المناظرة إنما وضعت لبيان الحق، وقد قال الشافعي رحمه الله: ما ناظرت أحدا فأنكر الحجة إلا سقط من عيني، ولا قبلها إلا هبته وما ناظرت أحدا فباليت مع من كانت الحجة إن كانت معه صرت إليه، ومن ذلك أن طلبهم للرياسة بالمناظرة يثير الكامن في النفس من حب الرياسة فإذا رأى أحدهم في كلامه ضعفا يوجب قهر خصمه له خرج إلى المكابرة فإن رأى خصمه استطال عليه بلفظ أخذته حمية الكبر فقابل ذلك بالسب فصارت المجادلة مخاذلة، ومن ذلك ترخصهم في الغيبة بحجة الحكاية عن المناظرة فيقول أحدهم تكلمت مع فلان فما قال شيئا ويتكلم بما يوجب التشفي من غرض خصمه بتلك الحجة، ومن ذلك أن إبليس لبس عليهم بأن الفقه وحده علم الشرع ليس ثم غيره فإن ذكر لهم محدث قالوا ذاك لا يفهم شيئاوينسون أن الحديث هو الأصل، فإن ذكر لهم كلام يلين به القلب قالوا هذا كلام الوعاظ، ومن ذلك إقدامهم على الفتوى وما بلغوا مرتبتها وربما أفتوا بواقعاتهم المخالفة للنصوص ولو توقفوا في المشكلات كان أولى.

فقد أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي ، نا محمد بن هبة الله الطبري ، ثنا محمد بن الحسين بن الفضل ، نا عبد الله بن جعفر بن درستويه ، ثنا يعقوب بن سفيان ، ثنا الحميدي ، ثنا سفيان ، ثنا عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول. قال يعقوب وثنا أبو نعيم ، ثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب قال سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى أيضا يقول: أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم من يحدث حديثا إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عن فتيا إلا [ ص: 118 ] ود أن أخاه كفاه الفتيا.

قال المصنف: وقد روينا عن إبراهيم النخعي أن رجلا سأله عن مسألة فقال: ما وجدت من تسأله غيري، وعن مالك بن أنس رضي الله عنه قال: ما أفتيت حتى سألت سبعين شيخا هل ترون لي أن أفتي فقالوا نعم. فقيل له فلو نهوك قال لو نهوني انتهيت. وقال رجل لأحمد بن حنبل : إني حلفت ولا أدري كيف حلفت قال ليتك إذ دريت كيف حلفت دريت أنا كيف أفتيك.

قال المصنف: وإنما كانت هذه سجية السلف لخشيتهم الله عز وجل وخوفهم منه، ومن نظر في سيرتهم تأدب.

ومن تلبيس إبليس على الفقهاء: مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك. وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضا فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه. الأول الأمير يقول لولا أني على صواب لأنكر علي الفقيه وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي، والثاني العامي أنه يقول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله فإن فلانا الفقيه لا يبرح عنده.

والثالث الفقيه فإنه يفسد دينه بذلك.

وقد لبس إبليس عليهم في الدخول على السلطان فيقول إنما ندخل لنشفع في مسلم، وينكشف هذا التلبيس بأنه لو دخل غيره يشفع لما أعجبه ذلك وربما قدح في ذلك الشخص لتفرده بالسلطان. ومن تلبيس إبليس عليه في أخذ أموالهم فيقول لك فيها حق ومعلوم أنها إن كانت من حرام لم يحل له منها شيء وإن كانت من شبهة فتركها أولى، وإن كانت من مباح جاز له الأخذ بمقدار مكانه من الدين لا على وجه اتفاقه في إقامة الرعونة وربما اقتدى العوام بظاهر فعله واستباحوا ما لا يستباح.

وقد لبس إبليس على قوم من العلماء ينقطعون على السلطان إقبالا على التعبد والدين فيزين لهم غيبة من يدخل على السلطان من العلماء فيجمع لهم آفتين غيبة الناس ومدح النفس، وفي الجملة فالدخول على السلاطين خطر عظيم لأن النية قد تحسن في أول الدخول ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم ولا يتماسك عن مداهنتهم وترك الإنكار عليهم، وقد كان سفيان الثوري رضي [ ص: 119 ] الله عنه يقول: ما أخاف من إهانتهم لي إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم، وقد كان علماء السلف يبعدون عن الأمراء لما يظهر من جورهم فتطلبهم الأمراء لحاجتهم إليهم في الفتاوى والولايات فنشأ أقوام قويت رغبتهم في الدنيا فتعلموا العلوم التي تصلح للأمراء وحملوها إليهم لينالوا من دنياهم ويدلك على أنهم قصدوا بالعلوم أن الأمراء كانوا قديما يميلون إلى سماع الحجج في الأصول فأظهر الناس علم الكلام، ثم مال بعض الأمراء إلى المناظرة في الفقه فمال الناس إلى الجدل، ثم بعض الأمراء إلى المواعظ فمال خلق كثير من المتعلمين إليها، ولما كان جمهور العوام يميلون إلى القصص كثر القصاص وقل الفقهاء.

ومن تلبيس إبليس على الفقهاء أن أحدهم يأكل من وقف المدرسة المبنية على المتشاغلين بالعلم فيمكث فيها سنين ولا يتشاغل ويقنع بما عرف أو ينتهي في العلم فلا يبقى له في الوقف حظ لأنه إنما جعل لمن يتعلم إلا أن يكون ذلك الشخص معيدا أو مدرسا فإن شغله دائم، ومن ذلك ما يحكى عن بعض الأحداث المتفقهة من الانبساط في المنهيات فبعضهم يلبس الحرير ويتحلى بالذهب ويحال على المكث فيأخذه إلى غير ذلك من المعاصي. وسبب انبساط هؤلاء مختلف. فمنهم من يكون فاسد العقيدة في أصل الدين وهو يتفقه ليستر نفسه أو ليأخذ من الوقف أو ليرأس أو ليناظر، ومنهم من عقيدته صحيحة لكن يغلبه الهوى وحب الشهوات وليس عنده صارف عن ذلك لأن نفس الجدل والمناظرة تحرك الكبر والعجب وإنما يتقوم الإنسان بالرياضة ومطالعة سير السلف وأكثر القوم في بعد عن هذا وليس عندهم إلا ما يعين الطبع على شموخه فحينئذ يسرح الهوى بلا زاد، ومنهم من يلبس عليه إبليس بأنه عالم وفقيه ومفت والعلم يدفع عن أربابه وهيهات فإن العلم أولى أن يحاجه ويضاعف عذابه كما ذكرنا في حق القراء، وقد قال الحسن البصري: إنما الفقيه من يخشى الله عز وجل. قال ابن عقيل: رأيت فقيها خراسانيا عليه حرير وخواتم ذهب فقلت له: ما هذا؟ فقال: خلع السلطان وكمد الأعداء، فقلت له: بل هو شماتة الأعداء بك إن كنت مسلما إن إبليس عدوك وإذا بلغ منك مبلغك ألبسك ما يسخط الشرع فقد أشمته بنفسك، وهل خلع السلطان سائغة لنهي الرحمن يا مسكين خلع عليك السلطان فانخلعت به من الإيمان، وقد كان ينبغي أن يخلع بك السلطان [ ص: 120 ] لباس الفسق ويلبسك لباس التقوى رماكم الله بخزيه حيث هونتم أمره هكذا ليتك قلت هذه رعونات الطبع الآن تمت محنتك لأن عدوانك دليل على فساد باطنك.

ومن تلبيسه عليهم: أن يحسن لهم ازدراء الوعاظ ويمنعهم من الحضور عندهم فيقولون من هؤلاء قصاص ومراد الشيطان أن لا يحضروا في موضع يلين فيه القلب ويخشع والقصاص لا يذمون من حيث هذا الاسم لأن الله عز وجل قال: ( نحن نقص عليك أحسن القصص ) وقال: ( فاقصص القصص ) وإنما ذم القصاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد ثم غالبهم يخلط فيما يورده وربما اعتمد على ما أكثره محال فأما إذا كان القصص صدقا ويوجب وعظا فهو ممدوح، وقد كان أحمد بن حنبل يقول: ما أحوج الناس إلى قاص صدوق.

التالي السابق


الخدمات العلمية