الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ذكر تلبيس إبليس على كثير من الصوفية في صحبة الأحداث .

قال المصنف : اعلم أن أكثر الصوفية المتصوفة قد سدوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب لبعدهم عن مصاحبتهن وامتناعهم عن مخالطتهن واشتغلوا بالتعبد عن النكاح واتفقت صحبة الأحداث لهم على وجه الإرادة وقصد الزهادة فأمالهم إبليس إليهم ، واعلم أن المتصوفة في صحبة الأحداث على سبعة أقسام : القسم الأول أخبث القوم وهم ناس تشبهوا بالصوفية ويقولون بالحلول . أخبرنا محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان ، نا أبو علي الحسين بن محمد بن الفضل الكرماني ، نا سهل بن علي الخشاب ، نا أبو نصر عبد الله بن علي السراج قال بلغني أن جماعة من الحلولية زعموا أن الحق تعالى اصطفى أجساما حل فيها بمعاني الربوبية ، ومنهم من قال هو حال في المستحسنات ، وذكر أبو عبد الله بن حامد من أصحابنا أن طائفة من الصوفية قالوا إنهم يرون الله عز وجل في الدنيا وأجازوا أن يكون في صفة الآدمي ولم يأبوا كونه حالا في الصورة الحسنة حتى استشهدوه في رؤيتهم الغلام الأسود . القسم الثاني : قوم يتشبهون بالصوفية في ملبسهم ، ويقصدون الفسق . القسم الثالث : قوم يستبيحون النظر إلى المستحسن . وقد صنف أبو عبد الرحمن السلمي كتابا سماه سنن الصوفية فقال في أواخر الكتاب : باب في جوامع رخصهم فذكر فيه الرقص والغناء والنظر إلى وجه الحسن . وذكر فيه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال : اطلبوا الخير عند حسان الوجوه ، وأنه قال : ثلاثة تجلو البصر : النظر إلى الخضرة والنظر إلى الماء والنظر إلى الوجه الحسن .

قال المصنف رحمه الله : وهذان الحديثان لا أصل لهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الحديث الأول فأخبرنا به عبد الأول بن عيسى ، نا عبد الرحمن بن محمد بن المظفر ، نا عبد الله بن أحمد بن حمويه ، نا إبراهيم بن خزيم ، ثنا عبد بن حميد ، ثنا يزيد بن هارون ، ثنا محمد بن عبد الرحمن بن المخير ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اطلبوا الخير عند حسان الوجوه . قال يحيى بن معين ، محمد بن عبد الرحمن ليس بشيء .

قال المصنف قلت : وقد روي هذا الحديث من طرق قال العقيلي لا يثبت [ ص: 258 ] عن النبي عليه السلام في هذا شيء ، وأما الحديث الآخر فأنبأنا أبو منصور بن خيرون ، نا أحمد بن علي بن ثابت ني أحمد بن محمد بن يعقوب ، نا محمد بن نعيم الضبي ، نا أبو بكر محمد بن أحمد بن هارون ، نا أحمد بن عمر بن عبيد الريحاني قال سمعت أبا البختري وهب بن وهب يقول : كنت أدخل على الرشيد وابنه القاسم بين يديه فكنت أدمن النظر إليه فقال : أراك تدمن النظر إلى القاسم تريد أن تجعل انقطاعه إليك . قلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن ترميني بما ليس في . وأما إدمان النظر إليه فإن جعفرا الصادق ثنا عن أبيه عن جده علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث يزدن في قوة النظر . النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن .

قال المصنف رحمه الله : هذا حديث موضوع ولا يختلف العلماء في أبي البختري أنه كذاب وضاع ، وأحمد بن عمر بن عبيد أحد المجهولين ، ثم قد كان ينبغي لأبي عبد الرحمن السلمي إذ ذكر النظر إلى المستحسن أن يقيده بالنظر إلى وجه الزوجة أو المملوكة فأما إطلاقه ففيه سوء ظن . وقال شيخنا محمد بن ناصر الحافظ كان ابن طاهر المقدسي قد صنف كتابا في جواز النظر إلى المرد .

قال المصنف رحمه الله : قلت الفقهاء يقولون من ثارت شهوته عند النظر إلى الأمرد حرم عليه أن ينظر إليه ومتى ادعى الإنسان أنه لا تثور شهوته عند النظر إلى الأمرد المستحسن فهو كاذب وإنما أبيح على الإطلاق لئلا يقع الحرج في كثرة المخالطة بالمنع فإذا وقع الإلحاح في النظر دل على العمل بمقتضى ثوران الهوى . قال سعيد بن المسيب إذا رأيتم الرجل يلح النظر إلى غلام أمرد فاتهموه . القسم الرابع قوم يقولون نحن لا ننظر نظر شهوة وإنما ننظر نظر اعتبار فلا يضرنا النظر وهذا محال منهم فإن الطباع تتساوى فمن ادعى تنزه نفسه عن أبناء جنسه في الطبع ادعى المحال وقد كشفنا هذا في أول كلامنا في السماع . أخبرتنا شهدة بنت أحمد الأبري قالت بإسناد مرفوع إلى محمد بن جعفر الصوفي قال : قال أبو حمزة الصوفي حدثني عبد الله بن الزبير الحنفي قال كنت جالسا مع أبي النضر الغنوي وكان من المبرزين العابدين فنظر إلى غلام جميل فلم تزل عيناه واقعتين عليه حتى دنا منه فقال سألتك بالله السميع وعزة الرفيع وسلطانه المنيع إلا وقفت علي أروي من النظر إليك فوقف قليلا ثم ذهب ليمضي فقال له [ ص: 259 ] سألتك بالحكيم المجيد الكريم المبدي المعيد إلا ما وقفت فوقف ساعة فأقبل يصعد النظر إليه ويصوبه ثم ذهب ليمضي فقال سألتك بالواحد الأحد الجبار الصمد الذي لم يلد ولم يولد إلا وقفت فوقف ساعة فنظر إليه طويلا ثم ذهب ليمضي فقال سألتك باللطيف الخبير السميع البصير وبمن ليس له نظير إلا وقفت فوقف فأقبل ينظر إليه ثم أطرق رأسه إلى الأرض ومضى الغلام فرفع رأسه بعد طويل وهو يبكي فقال قد ذكرني هذا بنظري إليه وجها جل عن التشبيه وتقدس عن التمثيل وتعاظم عن التحديد والله لأجهدن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي جميع أعدائه وموالاتي لأوليائه حتى أصير إلى ما أردته من نظري إلى وجهه الكريم وبهائه العظيم . ولوددت أنه قد أراني وجهه وحبسني في النار ما دامت السموات والأرض ثم غشي عليه . وحدثنا محمد بن عبد الله الفزاري قال سمعت خيرا النساج يقول كنت مع محارب بن حسان الصوفي في مسجد الخيف ونحن محرمون فجلس إلينا غلام جميل من أهل المغرب فرأيت محاربا ينظر إليه نظرا أنكرته فقلت له : بعد أن قام إنك محرم في شهر حرام في بلد حرام في مشعر حرام وقد رأيتك تنظر إلى هذا الغلام نظرا لا ينظره إلا المفتونون . فقال لي تقول هذا يا شهواني القلب والطرف ألم تعلم أنه قد منعني من الوقوع في شرك إبليس ثلاث فقلت وما هي قال سر الإيمان وعفة الإسلام وأعظمها الحياء من الله تعالى أن يطلع علي وأنا جاثم على منكر نهاني عنه ثم صعق حتى اجتمع الناس علينا .

قال المصنف رحمه الله : قلت انظروا إلى جهل الأحمق الأول ورمزه إلى التشبيه وإن تلفظ بالتنزيه وإلى حماقة هذا الثاني الذي ظن أن المعصية هي الفاحشة فقط وما علم أن نفس النظر بشهوة يحرم . ومحا عن نفسه أثر الطبع بدعواه التي تكذبها شهوة النظر . وقد حدثني بعض العلماء أن صبيا أمرد حكى له قال قال لي فلان الصوفي وهو يحبني : يا بني لله فيك إقبال والتفات . حيث جعل حاجتي إليك . وحكي أن جماعة من الصوفية دخلوا على أحمد الغزالي وعنده أمرد وهو خال به وبينهما ورد وهو ينظر إلى الورد تارة . وإلى الأمرد تارة . فلما جلسوا قال بعضهم لعلنا كدرنا . فقال أي والله فتصايح الجماعة على سبيل التواجد .

وحكى أبو الحسين بن يوسف أنه كتب إليه في رقعة إنك تحب غلامك [ ص: 260 ] التركي فقرأ الرقعة ثم استدعى الغلام فصعد إليه النظر فقبله بين عينيه وقال هذا جواب الرقعة .

قال المصنف رحمه الله قلت : إني لا أعجب من فعل هذا الرجل وإلقائه جلباب الحياء عن وجهه وإنما أعجب من البهائم الحاضرين كيف سكتوا عن الإنكار عليه ولكن الشريعة بردت في قلوب كثير من الناس . وأخبرنا أبو القاسم الحريري أنبأنا أبو الطيب الطبري قال : بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إلى وجه الأمرد وربما زينته بالحلي والمصبغات من الثياب والحراشي وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم قال الله تعالى ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) وقال ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) وقال : ( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) فعدلوا عما أمرهم الله به من الاعتبار إلى ما نهاهم عنه ، وإنما تفعل هذه الطائفة ما ذكرناه بعد تناول الألوان الطيبة والمآكل الشهية فإذا استوفت منها نفوسهم طالبتهم بما يتبعها من السماع والرقص والاستمتاع بالنظر إلى وجوه المرد ولو أنهم تقللوا من الطعام لم يحنوا إلى سماع ونظر . قال أبو الطيب وقد أخبر بعضهم في شعره عن أحوال المستمعين للغناء وما يجدونه حال السماع فقال :


أتذكر وقتنا وقد اجتمعنا على طيب السماع إلى الصباح     ودارت بيننا كأس الأغاني
فأسكرت النفوس بغير راح     فلم نر فيهم إلا نشاوى
سرورا أو السرور هناك صاحي     إذا لبى أخو اللذات فيه
منادي اللهو حي على الفلاح     ولم نملك سوى المهجات شيئا
أرقناها لألحاظ ملاح

قال فإذا كان السماع تأثيره في قلوبهم ما ذكره هذا القائل فكيف يجدي السماع نفعا أو يفيد فائدة . قال ابن عقيل قول من قال لا أخاف من رؤية الصور المستحسنة ليس بشيء . فإن الشريعة جاءت عامة الخطاب لا تميز الأشخاص . وآيات القرآن تنكر هذه الدعاوى قال الله تعالى : ( قل للمؤمنين يغضوا من [ ص: 261 ] أبصارهم ويحفظوا فروجهم ) . وقال ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت ) فلم يحل النظر إلا على صور لا ميل للنفس إليها ولا حظ فيها بل عبرة لا يمازجها شهوة . ولا تعتريها لذة فأما صور الشهوات فإنها تعبر عن العبرة بالشهوة وكل صورة ليست بعبرة لا ينبغي أن ينظر إليها لأنها قد تكون سببا للفتنة . ولذلك ما بعث الله تعالى امرأة بالرسالة ولا جعلها قاضيا ولا إماما ولا مؤذنا . كل ذلك لأنها محل فتنة وشهوة وربما قطعت عما قصدته الشريعة بالنظر وكل من قال أنا أجد من الصور المستحسنة عبرا كذبناه . وكل من ميز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا بالدعوى كذبناه وإنما هذه خدع الشيطان للمدعين . القسم الخاص قوم صحبوا المردان ومنعوا أنفسهم من الفواحش يعتقدون ذلك مجاهدة وما يعلمون أن نفس صحبتهم والنظر إليهم بشهوة معصية وهذه من خلال الصوفية المذمومات وقد كان قدماؤهم على غير هذا وقيل كانوا على هذا بدليل وهو ما أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال أنشدنا أبو علي الروزباري .


أنزه في روض المحاسن مقلتي     وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه     على الجبل الصلد الأصم تهدما

قال المصنف رحمه الله : وسيأتي حديث يوسف بن الحسين . وقوله : عاهدت ربي أن لا أصحب حدثا مائة مرة ففسحنا على قوام القدود وغنج العيون . أخبرتنا شهدة الكاتبة بإسناد عن أبي المختار الصبي قال حدثني أبي قال قلت لأبي الكميت الأندلسي وكان جوالا في أرض الله حدثني بأعجب ما رأيت من الصوفية قال صحبت رجلا منهم يقال له مهرجان وكان مجوسيا فأسلم وتصوف فرأيت معه غلاما جميلا لا يفارقه وكان إذا جاء الليل قام فصلى ثم ينام إلى جانبه ثم يقوم فزعا فيصلي ما قدر له ثم يعود فينام إلى جانبه حتى فعل ذلك مرارا فإذا أسفر الصبح أو كاد يسفر أوتر ثم رفع يديه وقال اللهم إنك تعلم أن الليل قد مضى علي سليما لم أقترف فيه فاحشة ولا كتبت علي الحفظة فيه معصية وأن الذي أضمره بقلبي لو حملته الجبال لتصدعت أو كان بالأرض لتدكدكت ثم يقول يا ليل اشهد بما كان مني فيك فقد منعني خوف الله عن طلب الحرام والتعرض للآثام ، ثم يقول سيدي أنت تجمع بيننا على تقى فلا تفرق بيننا يوم تجمع فيه [ ص: 262 ] الأحباب فأقمت معه مدة طويلة أراه يفعل ذلك كل ليلة وأسمع هذا القول منه فلما هممت بالانصراف من عنده قلت سمعتك تقول إذا انقضى الليل كذا وكذا فقال وسمعتني قلت نعم ، قال فوالله يا أخي إني لأداري من قلبي ما لو داراه سلطان من رعيته لكان الله حقيقا بالمغفرة له فقلت وما الذي يدعوك إلى صحبة من تخلف على نفسك العنت من قبله .

وقال أبو محمد بن جعفر بن عبد الله الصوفي قال أبو حمزة الصوفي رأيت ببيت المقدس فتى من الصوفية يصحب غلاما مدة طويلة فمات الفتى وطال حزن الغلام عليه حتى صار جلدا وعظما من الضنا والكمد فقلت له يوما لقد طال حزنك على صديقك حتى أظن أنك لا تسلو بعده أبدا فقال كيف أسلو عن رجل أجل الله عز وجل أن يصيبه معي طرفة عين أبدا وصانني عن نجاسة الفسوق في خلول صحبتي له وخلواتي معه في الليل والنهار .

قال المصنف رحمه الله : هؤلاء قوم رآهم إبليس لا ينجذبون معه إلى الفواحش فحسن لهم بداياتها فتعجلوا لذة النظر والصحبة والمحادثة وعزموا على مقاومة النفس في ضدها عن الفاحشة فإن صدقوا وتم لهم ذلك فقد اشتغل القلب الذي ينبغي أن يكون شغله بالله تعالى لا بغيره وصرف الزمان الذي ينبغي أن يخلو فيه القلب بما ينفع به في الآخرة بمجاهدة الطبع في كفه عن الفاحشة وهذا كله جهل وخروج عن آداب الشرع فإن الله عز وجل أمر بغض البصر لأنه طريق إلى القلب ليسلم القلب لله تعالى من شائب تخاف منه وما مثل هؤلاء إلا كمثل من أقبل إلى سباع في غيضة متشاغلة عنه لا تراه فأثارها وحاربها وقاومها فيا بعد سلامته من جراحة إن لم يهلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية