الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال المصنف رحمه الله قلت: ليس في شرعنا بحمد الله من هذا شيء بل فيه تحريم ذلك والمنع منه وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: "ليس للمؤمن أن يذل نفسه" ولقد فاتت الجمعة حذيفة فرأى الناس راجعين فاستتر لئلا يرى بعين النقص في قصة الصلاة وهل طالب الشرع أحدا بمحو أثر النفس وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله" كل هذا للإبقاء على جاه النفس. ولو أمر بهلول الصبيان أن يصفعوه لكان قبيحا فنعوذ بالله من هذه العقول الناقصة التي تطالب المبتدئ بما لا يرضاه الشرع فينفر.

وقد حكى أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء عن يحيى بن معاذ أنه قال قلت لأبي يزيد هل سألت الله تعالى المعرفة يقال عزت عليه أن يعرفها سواه. فقلت: هذا إقرار بالجهل فإن كان يشير إلى معرفة الله تعالى في الجملة وأنه موجود وموصوف بصفات وهذا لا يسمع أحد من المسلمين جهله وإن تخايل له أن معرفته هي اطلاع على حقيقة ذاته وكنهها فهذا جهل به.

: لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرة قلت: وهذا فوق الجنون بدرجات.

وحكى أبو حامد الغزالي ، عن ابن الكريني أنه قال نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح فنشب في قلبي فدخلت الحمام وعينت على ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي وخرجت فجعلت أمشي قليلا قليلا فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت نفسي. قال أبو حامد فهكذا كانوا يرضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس وأرباب الأحوال ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا صلاح قلوبهم ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير كما فعل هذا في الحمام. قلت: سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحل: والعجب منه [ ص: 344 ] أنه يحكيه ويستحسنه ويسمي أصحابه أرباب أحوال وأي حالة أقبح وأشد من حال من يخالف الشرع ويرى المصلحة في النهي عنه وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل المعاصي وقد عدم في الشريعة ما يصلح به قلبه حتى يستعمل ما لا يحل فيها وهذا من جنس ما تفعله الأمراء الجهلة من قطع من لا يجب قطعه وقتل من لا يجوز قتله ويسمونه سياسة ومضمون تلك الشريعة ما تفي بالسياسة. وكيف يحل للمسلم أن يعرف نفسه لأن يقال عنه سارق وهل يجوز أن يقصد وهن دينه ومحو ذلك عند شهداء الله في الأرض ولو أن رجلا وقف مع امرأته في طريق يكلمها ويلمسها ليقول عنه من لا يعلم هذا فاسق لكان عاصيا بذلك، ثم كيف يجوز التصرف في مال الغير بغير إذنه. ثم في نص مذهب أحمد ، والشافعي أن من سرق من الحمام ثيابا عليها حافظ وجب قطع يده ثم من أرباب الأحوال حتى يعملوا بواقعاتهم كلا والله إن لنا شريعة لو رام أبو بكر الصديق أن يخرج عنها إلى العمل برأيه لم يقبل منه. فعجبي من هذا الفقيه المستلب عن الفقه بالتصوف أكثر من تعجبي من هذا المستلب الثياب.

أخبرنا أبو بكر بن حبيب ، نا أبو سعد بن أبي صادق ، نا ابن باكويه قال: سمعت محمد بن أحمد النجاري يقول: كان علي بن بابويه من الصوفية فاشترى يوما من الأيام قطعة لحم فأحب أن يحمله إلى البيت فاستحيا من أهل السوق فعلق اللحم في عنقه وحمله إلى بيته.

قلت: واعجبا من قوم طالبوا أنفسهم بمحو أثر الطبع وذلك أمر لا يمكن ولا هو مراد الشرع وقد ركز في الطباع أن الإنسان لا يحب أن يرى إلا متجملا في ثيابه وأنه يستحي من العري وكشف الرأس. والشرع لا ينكر عليه هذا. وما فعله هذا الرجل من الإهانة لنفسه بين الناس أمر قبيح في الشرع والعقل فهو إسقاط مروءة لا رياضة كما لو حمل نعليه على رأسه.

وقد جاء في الحديث: "الأكل في السوق دناءة" فإن الله قد أكرم الآدمي وجعل لكثير من الناس من يخدمه. فليس من الدين إذلال الرجل نفسه بين الناس، وقد تسمى قوم من الصوفية بالملامتية فاقتحموا الذنوب فقالوا مقصودنا أن نسقط من أعين الناس فنسلم من آفات الجاه والمرائين: وهؤلاء مثلهم كمثل رجل زنى بامرأة فأحبلها، فقيل له: لم تعزل؟ فقال: بلغني أن العزل مكروه.

[ ص: 345 ] فقيل له: وما بلغك أن الزنا حرام؟ هؤلاء الجهلة قد أسقطوا جاههم عند الله سبحانه ونسوا أن المسلمين شهداء الله في الأرض. أخبرنا ابن حبيب ، نا ابن أبي صادق ، نا ابن باكويه قال سمعت أبا أحمد الصغير سمعت أبا عبد الله بن خفيف سمعت أبا الحسن المديني يقول خرجت مرة من بغداد إلى نهر الناشرية وكان في إحدى قرى ذلك النهر رجل يميل إلى أصحابنا فبينا أنا أمشي على شاطئ النهر رأيت مرقعة مطروحة ونعلا وخريقة فجمعتهما وقلت: هذه لفقير، ومشيت قليلا فسمعت همهمة وتخبيطا في الماء فنظرت فإذا بأبي الحسن النوري قد ألقى نفسه في الماء والطين وهو يتخبط ويعمل بنفسه كل بلاء، فلما رأيته علمت أن الثياب له فنزلت إليه فنظر إلي، وقال يا أبا الحسن أما ترى ما يعمل بي. قد أماتني موتات وقال لي ما لك منا إلا الذكر الذي لسائر الناس. وأخذ يبكي ويقول ترى ما يفعل بي؟ فما زلت أرفق به حتى غسلته من الطين وألبسته المرقعة وحملته إلى دار ذلك الرجل فأقمنا عنده إلى العصر ثم خرجنا إلى المسجد فلما كان وقت المغرب رأيت الناس يهربون ويغلقون الأبواب ويصعدون السطوح فسألناهم فقالوا: السباع تدخل القرية بالليل. وكان حوالي القرية أجمة عظيمة وقد قطع منها القصب وبقيت أصوله كالسكاكين، فلما سمع النوري هذا الحديث قام فرمى بنفسه في الأجمة على أصول القصب المقطوع ويصيح ويقول: أين أنت يا سبع؟ فما شككنا أن الأسد قد افترسه أو قد هلك في أصول القصب. فلما كان قريب الصبح جاء فطرح نفسه وقد هلكت رجلاه فأخذنا بالمنقاش ما قدرنا عليه فبقي أربعين يوما لا يمشي على رجليه فسألته أي شيء كان ذلك الحال. قال لما ذكروا السبع وجدت في نفسي فزعا فقلت: لأطرحنك إلى ما تفزعين منه.

قلت: لا يخفى على عاقل تخبيط هذا الرجل قبل أن يقع في الماء والطين وكيف يجوز للإنسان أن يلقي نفسه في ماء وطين وهل هذا إلا فعل المجانين وأين الهيبة والتعظيم من قوله: ترى ما يفعل بي وما وجه هذا الانبساط وينبغي أن تجف الألسن في أفواهها هيبة. ثم ما الذي يريده غير الذكر ولقد خرج عن الشريعة بخروجه إلى السبع ومشيه على القصب المقطوع وهل يجوز في الشرع أن يلقي الإنسان نفسه إلى سبع أترى أراد منها أن يغير ما طبعت عليه من خوف السباع ليس هذا في طوقها ولا طلبه الشرع منها. ولقد سمع هذا الرجل بعض [ ص: 346 ] أصحابه يقول مثل هذا القول فأجابه بأجود جواب. أخبرنا محمد بن عبد الله بن حبيب ، نا علي بن أبي صادق ، نا ابن باكويه ، نا يعقوب الحواط ، نا أبو أحمد المغازي قال: رأيت النوري وقد جعل نفسه إلى أسفل ورجليه إلى فوق وهو يقول: من الخلق أوحشتني ومن النفس والمال والدنيا أفقرتني. ويقول ما معك إلا علم وذكر قال فقلت له إن رضيت وإلا فانطح برأسك بالحائط. أخبرنا محمد بن أبي القاسم أنبأنا الحسن بن محمد بن الفضل الكرماني ، نا سهل بن علي الخشاب ، نا عبد الله بن علي السراج قال سمعت أبا عمرو بن علوان يقول حمل أبو الحسين النوري ثلاثمائة دينار ثمن عقار بيع له، وجلس على قنطرة وجعل يرمي واحدا واحدا منها إلى الماء ويقول: جئت تريدين أن تخدعيني منك بمثل هذا. قال السراج: فقال بعض الناس لو أنفقها في سبيل الله كان خيرا له. فقلت: إن كانت تلك الدنانير تشغله عن الله طرفة عين كان الواجب أن يرميها في الماء دفعة واحدة حتى يكون أسرع لخلاصه من فتنتها كما قال الله عز وجل: ( فطفق مسحا بالسوق والأعناق ) قلت: لقد أبان هؤلاء القوم عن جهل بالشرع وعدم عقل. وقد بينا فيما تقدم أن الشرع أمر بحفظ المال وأن لا يسلم إلا إلى رشيد وجعله قواما للآدمي، والعقل يشهد بأنه إنما خلق للمصالح: فإذا رمى به الإنسان فقد أفسد ما هو سبب صلاحه وجهل حكمه الواضع واعتذار السراج له أقبح من فعله; لأنه إن كان خاف فتنته فينبغي أن يرميه إلى فقير ويتخلص، ومن جهل هؤلاء حملهم تفسير القرآن على رأيهم الفاسد لأنه يحتج بمسح السوق والأعناق، ويظن بذلك جواز الفساد والفساد لا يجوز في شريعة، وإنما مسح بيده عليها وقال أنت في سبيل الله وقد سبق بيان هذا، وقال أبو نصر السراج في كتاب اللمع قال أبو جعفر الدراج: خرج أستاذي يوما يتطهر فأخذت كتفه ففتشته فوجدت فيه شيئا من الفضة مقدار أربعة دراهم وكان ليلا وبات لم يأكل شيئا، فلما رجع قلت له: في كتفك كذا وكذا درهما ونحن جياع، فقال: أخذته؟ رده، ثم قال لي بعد ذلك: خذه واشتر به شيئا، فقلت له: بحق معبودك ما أمر هذه القطع فقال: لم يرزقني الله من الدنيا شيئا غيرها فأردت أن أوصي أن تدفن معي فإذا كان يوم القيامة رددتها إلى الله وأقول هذا الذي أعطيتني من الدنيا. أخبرنا ابن حبيب ، نا ابن أبي صادق ، نا ابن باكويه ، ثنا عبد الواحد بن بكر قال سمعت أبا [ ص: 347 ] بكر الجوال سمعت أبا عبد الله الحصري يقول: مكث أبو جعفر الحداد عشرين سنة يعمل كل يوم بدينار وينفقه على الفقراء ويصوم ويخرج بين العشاءين فيتصدق من الأبواب ما يفطر عليه.

قال المصنف رحمه الله قلت: لو علم هذا الرجل أن المسألة لا تجوز لمن يقدر على الاكتساب لم يفعل، ولو قدرنا جوازها، فأين أنفة النفس من ذل الطلب؟ أخبرنا هبة الله بن محمد ، نا الحسن بن علي التميمي ، نا أحمد بن جعفر ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثني أبي ثنا إسماعيل ، ثنا معمر ، عن عبد الله بن مسلم أخي الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وما على وجهه مزعة لحم" قال أحمد وحدثنا حفص بن غياث ، عن هشام عن أبيه عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لأن يأخذ الرجل حبلا فيحتطب ثم يجيء فيضعه في السوق فيبيعه ثم يستغني به فينفقه على نفسه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".

قلت: انفرد به البخاري واتفقا على الذي قبله. وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" - والمرة - القوة وأصلها من شدة فتل الحبل يقال أمررت الحبل إذا أحكمت فتله. فمعنى المرة في الحديث شدة أمر الخلق وصحة البدن التي يكون معها احتمال الكل والتعب. قال الشافعي رضي الله عنه: لا تحل الصدقة لمن يجد قوة يقدر بها على الكسب. أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز ، نا أبو بكر بن ثابت أنبأنا أبو سعد الماليني قال سمعت أبا بكر محمد بن عبد الواحد الهاشمي سمعت أبا الحسن يونس بن أبي بكر الشبلي يقول قام أبي ليلة فترك فرد رجل على السطح والأخرى على الدار فسمعته يقول لئن أطرفت لأرمين بك إلى الدار فما زال على تلك الحال حتى أصبح فلما أصبح قال لي: يا بني ما سمعت الليلة ذاكرا الله عز وجل إلا ديكا يساوي دانقين.

قال المصنف رحمه الله: هذا الرجل قد جمع بين شيئين لا يجوزان، أحدهما: مخاطرته بنفسه فلو غلبه النوم فوقع كان معينا على نفسه ولا شك أنه لو رمى بنفسه كان قد أتى معصية عظيمة فتعرضه للوقوع معصية، والثاني أنه منع عينه حظها من النوم، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إن لجسدك عليك حقا وإن لزوجتك عليك [ ص: 348 ] حقا وإن لعينك عليك حقا" وقال: "إذا نعس أحدكم فليرقد". ومر بحبل قد مدته زينب فإذا فترت أمسكت به فأمر بحله. وقال: "ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليقعد" وقد تقدمت هذه الأحاديث في كتابنا هذا. أخبرنا محمد بن ناصر ، نا أبو عبد الله الحميدي ، نا أبو بكر الأردستاني ، ثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا العباس البغدادي يقول: كنا نصحب أبا الحسن بن أبي بكر الشبلي ونحن أحداث، فأضافنا ليلة فقلنا بشرط أن لا تدخل علينا أباك، فقال لا يدخل، فدخلنا داره فلما أكلنا إذا نحن بالشبلي وبين كل أصبعين من أصابعه شمعة - ثمان شموع - فجاء وقعد وسطنا فاحتشمنا منه، فقال يا سادة عدوني فيما بينكم طشت شموع، ثم قال أين غلامي أبو العباس فتقدم إليه فقال غنني الصوت الذي كنت تغني:

ولما بلغ الحيرة حادى جملي حارا     فقلت: احطط بها رحلي
ولا نحفل بمن سارا

فغنيته وألقى الشموع من يده وخرج. أخبرنا ابن ناصر ، ثنا هبة الله بن عبد الله الواسطي ، نا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ ، نا محمد بن أحمد بن أبي الفوارس ، نا الحسين بن أحمد بن عبد الرحمن الصفار قال خرج الشبلي يوم عيد وقد حلق أشفار عينيه وحاجبيه وتعصب بعصابة وهو يقول:

للناس فطر وعيد     إني فريد وحيد

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، نا أحمد بن علي بن ثابت ، نا التنوخي ، ثنا أبو الحسن علي بن محمد بن أبي صابر الدلال قال وقفت على الشبلي في قبة الشعراء في جامع المنصور والناس مجتمعون عليه فوقف عليه في الحلقة غلام جميل لم يكن ببغداد في ذلك الوقت أحسن وجها منه يعرف بابن مسلم فقال له: تنح فلم يبرح فقال له الثانية تنح يا شيطان عنا فلم يبرح فقال له الثالثة تنح وإلا والله خرقت كل ما عليك وكانت عليه ثياب في غاية الحسن تساوي جملة كثيرة فانصرف الفتى فقال الشبلي :

طرحوا اللحم للبزا     ة على ذروتي عدن
[ ص: 349 ] ثم لاموا البزاة إذ     خلعوا منهم الرسن
لو أرادوا صلاحنا     ستروا وجهك الحسن

قال ابن عقيل من قال هذا فقد أخطأ طريق الشرع; لأنه يقول ما خلق الله عز وجل هذا الإنسان إلا للافتتان به. وليس كذلك وإنما خلقه للاعتبار والامتحان فإن الشمس خلقت لتضيء لا لتعبد، وبإسناد عن أحمد بن محمد النهاوندي يقول مات للشبلي ابن ولد كان اسمه عليا فجزت أمه شعرها عليه، وكان للشبلي لحية كبيرة فأمر بحلقها جميعها فقيل له: يا أستاذ ما حملك على هذا فقال: جزت هذه شعرها على مفقود، ألا أحلق أنا لحيتي على موجود. وبإسناد عن عبد الله بن علي السراج قال: ربما كان الشبلي يلبس ثيابا مثمنة ثم ينزعها ويضعها فوق النار. قال: وذكر عنه أنه أخذ قطعة عنبر فوضعها على النار يبخر بها ذنب الحمار وقال بعضهم: دخلت عليه فرأيت بين يديه اللوز والسكر يحرقه بالنار قال السراج: إنما أحرقه بالنار لأنه كان يشغله عن ذكر الله قلت: اعتذار السراج عنه أعجب من فعله، قال السراج وحكى عنه أنه باع عقارا ففرق ثمنه وكان له عيال فلم يدفع إليهم شيئا، وسمع قارئا يقرأ: (اخسؤوا فيها) فقال ليتني كنت واحدا منهم. قلت: وهذا الرجل ظن أن الذي يكلمهم هو الله تعالى والله لا يكلمهم ثم لو كلمهم كلام إهانة فأي شيء هذا حتى يطلب، قال السراج ، وقال الشبلي يوما في مجلسه إن لله عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفؤوها قلت: وهذا من جنس ما ذكرناه عن أبي يزيد وكلاها من إناء واحد. وبإسناد عن أبي علي الدقاق يقول: بلغني أن الشبلي اكتحل بكذا وكذا من الملح ليعتاد السهر ولا يأخذه النوم.

قال المصنف رحمه الله: وهذا فعل قبيح لا يحل لمسلم أن يؤذي نفسه وهو سبب للعمى ولا تجوز إدامة السهر لأن فيه إسقاط حق النفس والظاهر أن دوام السهر والتقلل من الطعام أخرجه إلى هذه الأحوال والأفعال. وبإسناد عن أبي عبد الله الرازي قال: كساني رجل صوفا فرأيت على رأس الشبلي قلنسوة تليق بذلك الصوف فتمنيتها في نفسي، فلما قام الشبلي من مجلسه التفت إلي فتبعته، وكان عادته إذا أراد أن أتبعه يلتفت إلي فلما دخل داره فقال انزع الصوف فنزعته فلفه وطرح القلنسوة عليه ودعا بنار فأحرقهما، قلت: وقد حكى أبو [ ص: 350 ] حامد الغزالي أن الشبلي أخذ خمسين دينارا فرماها في دجلة وقال: ما أعزك أحد إلا أذله الله، وأنا أتعجب من أبي حامد أكثر من تعجبي من الشبلي لأنه ذكر ذلك على وجه المدح لا على وجه الإنكار فأين أثر الفقه؟ وبإسناد عن حسين بن عبد الله القزويني قال: حدثني من كان مجالسا لبنان أنه قال: تعذر علي قوتي يوما ولحقني ضرورة فرأيت قطعة ذهب مطرحة في الطريق فأردت أخذها فقلت لقطة فتركتها، ثم ذكرت الحديث الذي يروى "لو أن الدنيا كانت دما عبيطا لكان قوت المسلم منها حلالا" فأخذتها وتركتها في فمي ومشيت غير بعيد فإذا أنا بحلقة فيها صبيان وأحدهم يتكلم عليهم، فقال له واحد متى يجد العبد حقيقة الصدق، فقال إذا رمى القطعة من الشدق فأخرجتها من فمي ورميتها.

التالي السابق


الخدمات العلمية