الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2648 18 - حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن الأسود بن قيس ، عن جندب بن سفيان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض المشاهد وقد دميت إصبعه فقال :

                                                                                                                                                                                  هل أنت إلا إصبع دميت .. وفي سبيل الله ما لقيت .



                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " وقد دميت إصبعه " لأنه نكب في إصبعه . وأبو عوانة ، بفتح العين ، الوضاح اليشكري . والأسود بن قيس ، أخو علي بن قيس البجلي ، الكوفي . وجندب ، بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها ، ابن عبد الله بن سفيان البجلي .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن أبي نعيم عن الثوري . وأخرجه مسلم في المغازي عن يحيى بن يحيى وقتيبة كلاهما عن أبي عوانة ، وعن أبي بكر وإسحاق كلاهما عن ابن عيينة . وأخرجه الترمذي في التفسير وفي الشمائل عن ابن أبي عمر عن ابن عيينة ، وفي الشمائل عن محمد بن المثنى . وأخرجه النسائي في اليوم والليلة عن قتيبة به ، وعن عمرو بن منصور .

                                                                                                                                                                                  قوله : " المشاهد " أي : المغازي ، وسميت بها لأنها مكان الشهادة . قوله : " وقد دميت أصبعه " يقال : دمي الشيء يدمى دما ودميا ، فهو دم ، مثل فرق يفرق فرقا فهو فرق ، والمعنى أن إصبعه جرحت فظهر منها الدم . قوله : " هل أنت " معناه : ما أنت ، " إلا إصبع دميت " ، قال النووي : الرواية المعروفة كسر التاء وسكنها بعضهم ، والإصبع فيها عشر لغات تثليث الهمزة مع تثليث الباء والعاشرة أصبوع . قوله : " دميت " بفتح الدال صفة للإصبع ، والمستثنى فيه أعم عام الصفة أي : ما أنت يا إصبع موصوفة بشيء إلا بأن دميت ، كأنها لما توجعت خاطبها على سبيل الاستعارة أو الحقيقة معجزة تسليا لها ، أي : تثبتي فإنك ما ابتليت بشيء من الهلاك والقطع سوى أنك دميت ، ولم يكن ذلك أيضا هدرا بل كان في سبيل الله ورضاه .

                                                                                                                                                                                  قيل : كان ذلك في غزوة أحد ، وفي صحيح مسلم " كان النبي صلى الله عليه وسلم في غار فنكبت أصبعه " وقال القاضي عياض : قال أبو الوليد : لعله غازيا فتصحف كما قال في الرواية الأخرى في بعض المشاهد وكما جاء في رواية البخاري " يمشي إذ أصابه حجر " فقال القاضي : قد يراد بالغار الجمع والجيش لا الكهف ، ومنه قول علي رضي الله تعالى عنه : ما ظنك بامرئ جمع بين هذين الغارين ، أي : العسكرين . قال الكرماني : فإن قلت : هذا شعر ، وقد نفى الله تعالى عنه أن يكون شاعرا . قلت : أجابوا عنه بوجوه ; بأنه رجز والرجز ليس بشعر ، كما هو مذهب الأخفش ، وإنما يقال لصانعه فلان الراجز ولا يقال الشاعر ، إذ الشعر لا يكون إلا بيتا تاما مقفى على أحد أنواع العروض المشهورة ، وبأن الشعر لا بد فيه من قصد ذلك ، فما لم يكن مصدره عن نية له وروية فيه ، وإنما هو على اتفاق كلام يقع موزونا بلا قصد إليه ، ليس منه كقوله : وجفان كالجواب وقدور راسيات وكما يحكى عن السؤال اختموا صلاتكم بالدعاء والصدقة ، وعن بعض المرضى وهو يعالج الكي ويتضور اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى ، وبأن البيت الواحد لا يسمى شعرا . وقال بعضهم : وما علمناه الشعر هو رد على الكفار المشركين في قولهم بل هو شاعر ، وما يقع على سبيل الندرة لا يلزمه هذا الاسم ، إنما الشاعر هو الذي ينشد الشعر ويشبب ويمدح ويذم ويتصرف في الأفانين ، وقد برأ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وصان قدره عنه ، فالحاصل أن المنفي هو صنعة الشاعرية لا غير ، وفي التوضيح " هل أنت إلا أصبع " إلى آخره ، رجز موزون وقد يقع على لسانه صلى الله عليه وسلم مقدار البيت من الشعر أو البيتين من الرجز . كقوله :

                                                                                                                                                                                  أنا النبي لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب

                                                                                                                                                                                  [ ص: 100 ] فلو كان هذا شعرا لكان خلاف قوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له والله يتعالى أن يقع شيء من خبره أن يوجد على خلاف ما أخبر به ، ووقوع الكلام الموزون في النادر من غير قصد ليس بشعر ، لأن ذلك غير ممتنع على أحد من العامة والباعة أن يقع له كلام موزون فلا يكون بذلك شاعرا ، مثل قولهم :

                                                                                                                                                                                  اسقني في الكوز ماء يا فلان وأسرج البغل وجئني بالطعام

                                                                                                                                                                                  فهذا القدر ليس بشعر ، والرجز ليس بشعر ، قاله القاضي أبو بكر بن الطيب وغيره . وقال ابن التين : هذا الشعر لابن رواحة . وفيه نظر ، وقيل : لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم للوليد بن الوليد باع ما له بالطائف وهاجر على رجليه إلى المدينة فقدمها وقد تقطعت رجلاه وأصابعه فقال :

                                                                                                                                                                                  هل أنت إلا إصبع دميت .. وفي سبيل الله ما لقيت
                                                                                                                                                                                  .. يا نفس إن لا تقتلي تموتي

                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  ومات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . قلت : الوليد هذا أخو خالد بن الوليد ، سيف الله . وقال أبو عمر : " قال مصعب : شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضية ، وكتب إلى أخيه خالد - وكان خالد خرج من مكة فارا لئلا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة كراهية للإسلام وأهله - فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد وقال : لو أتانا خالد لأكرمناه ، وما مثله سقط عليه الإسلام في غفلة ، فكتب بذلك الوليد إلى أخيه خالد فوقع الإسلام في قلب خالد ، وكان سبب هجرته " .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية