الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2672 43 - حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا الزهري ، قال : أخبرني عنبسة بن سعيد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بخيبر بعدما افتتحوها ، فقلت : يا رسول الله ، أسهم لي ؟ فقال بعض بني سعيد بن العاص : لا تسهم له يا رسول الله . فقال أبو هريرة : هذا قاتل ابن قوقل . فقال ابن سعيد بن العاص : واعجبا ، لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهني على يديه ، قال : فلا أدري أسهم له أم لم يسهم له . قال سفيان : وحدثنيه السعيدي عن جده عن أبي هريرة . قال : أبو عبد الله السعيدي عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قول ابن سعيد بن العاص ، وهو أبان بن سعيد " أكرمه الله بيدي " وأراد بذلك أن ابن قوقل وهو النعمان استشهد بيد أبان ، فأكرمه الله بالشهادة ، ولم يقتل أبان على كفره فيدخل النار بل عاش حتى تاب وأسلم ، وكان إسلامه قبل خيبر وبعد الحديبية ، وهذا هو عين الترجمة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) وهم خمسة ; الأول : الحميدي ، بضم الحاء المهملة هو عبد الله بن الزبير أبو بكر ، منسوب إلى أحد أجداده ، حميد بن زهير وهو بطن من قريش . الثاني : سفيان بن عيينة . الثالث : محمد بن مسلم الزهري . الرابع : عنبسة ، بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة وبالسين المهملة ، ابن سعيد الأموي . الخامس : أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                  وفيه أربعة أنفس أيضا ، الأول : هو قوله : " بعض بني سعيد بن العاص " هو أبان بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي ، قال الزبير : تأخر إسلامه بعد إسلام أخويه خالد وعمرو ثم أسلم أبان وحسن إسلامه ، قال أبو عمر : وكان إسلام أبان بن سعيد بين الحديبية وخيبر . وقال ابن إسحاق : قتل أبان وعمرو ابنا سعيد بن العاص يوم اليرموك ، ولم يتابع عليه ابن إسحاق ، وكانت اليرموك يوم الاثنين لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة في خلافة عمر . وقال موسى بن عقبة : قتل أبان يوم أجنادين ، وكانت وقعت أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه . وقيل : إنه قتل أيام مرج الصفر ، وكان في صدر خلافة عمر سنة أربع عشرة ، وكان الأمير يوم مرج الصفر خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه . الثاني : ابن قوقل ، هو النعمان بن مالك بن ثعلبة بن أصرم بالصاد [ ص: 124 ] المهملة ، ابن فهم بن ثعلبة بن غنم ، بفتح الغين المعجمة وسكون النون بعدها ميم ، ابن عمرو بن عوف الأنصاري الأوسي ، وقوقل لقب ثعلبة ، وقيل : لقب أصرم ، وقد ينسب النعمان إلى جده فيقال له النعمان بن قوقل ، وقوقل بقافين على وزن جعفر ، شهد بدرا وقتل يوم أحد شهيدا ، وروى البغوي في الصحابة أن النعمان بن قوقل قال يوم أحد : أقسمت عليك يا رب أن لا تغيب الشمس حتى أطأ بعرجتي في الجنة ، فاستشهد ذلك اليوم فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : " لقد رأيته في الجنة " . الثالث : السعيدي ، وهو الذي أوضحه البخاري بقوله " هو عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص " يكنى أبا أمية المكي ، قال يحيى بن معين : صالح ، وذكره ابن حبان في الثقات . الرابع : سعيد بن عمرو بن سعيد القرشي ، أبو عثمان الأموي ، روى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرسلا ، وعن جماعة من الصحابة ، روى عنه ابن ابنه عمرو بن يحيى المذكور ، وقال أبو زرعة والنسائي : ثقة . وقال أبو حاتم : صدوق .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : " وهو بخيبر " جملة حالية ، وكان افتتاحها في سنة .. ..

                                                                                                                                                                                  قوله : " أسهم لي " السائل بهذا هو أبو هريرة ، وفي رواية أبي داود " أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قبل نجد فقدم أبان وأصحابه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها ، فقال أبان : اقسم لنا يا رسول الله . قال أبو هريرة : فقلت : لا تقسم له يا رسول الله . فقال أبان : أنت هنا يا وبر تحدر علينا من رأس ضال . فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : اجلس يا أبان . ولم يقسم لهم " وفي لفظ " فقال سعيد بن العاص : يا عجبا لوبر " قال أبو بكر الخطيب : كذا عند أبي داود " فقال سعيد " وإنما هو ابن سعيد واسمه أبان ، قال : والصحيح أن أبا هريرة هو السائل كما هو في البخاري ، انتهى . قلت : على تقدير صحة حديث أبي داود ومقاومته لحديث البخاري ، يحتمل أنهما سألا جميعا وأن أحدهما جازى الآخر لما أسلفه من قوله : " لا تقسم له " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " بعض بني سعيد بن العاص " هو أبان بن سعيد ، كما قلنا . قوله : " قاتل ابن قوقل " هو النعمان بن مالك ، كما ذكرناه الآن . قوله : " واعجبا " بالتنوين ، ويروى بدونه ، وكلمة " وا " هنا ، اسم لأعجب وانتصاب عجبا به . قوله : " لوبر " بفتح الواو وسكون الباء الموحدة بعدها راء ، قال ابن قرقول كذا لأكثر الرواة بسكون الباء الموحدة ، وهي دويبة غبراء ، ويقال بيضاء ، على قدر السنور حسنة العينين من دواب الجبال ، وإنما قال له ذلك احتقارا ، وضبطها بعضهم بفتح الباء ، وتأوله جمع وبرة وهو شعر الإبل ، أي : إن شأنه كشأن الوبرة ، لأنه لم يكن لأبي هريرة عشيرة . وقال الخطابي : أحسب أنها تؤكل ، لأني وجدت بعض السلف يوجب فيها الفدية . وقال القزاز : هي ساكنة الباء ، دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون ، يعني تشبه الطحال ، لا ذنب لها ، وهي من دواب الغور ، والجمع وبار . وفي المحكم : على قدر السنور ، والأنثى وبرة ، والجمع وبر ووبور ووبار ووبارة وأبارة . وفي الصحاح : ترحن في البيوت ، أي : تقيم بها وتألفها . وقال أبو موسى المديني في كتاب المغيث : يجب على المحرم في قتلها شاة ، لأنها تجتز كالشاة . وقيل : لأن لها كرشا كالشاة . وفي مجمع الغرائب : عن مجاهد في الوبر شاة ، فذكر مثله . وفي البارع لأبي علي بن أبي حاتم : الطائيون يقولون لما يكون في الجبال من الحشرات الوبر ، وجمعها الوبارة ، ولغة أخرى الإبارة بالكسر والهمز .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال : وإنما سكت أبو هريرة عن أبان في قوله هذا ، لأنه لم يرمه بشيء ينقص دينه ، إنما ينقصه بقلة العشيرة والعدد ، أو لضعف المنة . قوله : " تدلى علينا " أي : انحدر ، ولا يخبر بهذا إلا عمن جاء من مكان عال . قال الطبري : هذا هو المشهور عند العرب . قوله : " من قدوم ضان " ، قال ابن قرقول : هو بفتح القاف وتخفيف الدال اسم موضع ، وضم المروزي القاف ، والأول أكثر ، وتأوله بعضهم قدوم ضان أي المتقدم منها ، وهي رؤوسها ، وهو وهم بين . وقال ابن بطال : يحتمل أن يكون جمع قادم ، مثل ركوع وراكع وسجود وساجد ، ويكون المعنى : تدلى علينا من جملة القادمين ، أقام الصفة مقام الموصوف ، ويكون " من " في قوله " من قدوم " تبيينا للجنس ، كما لو قال : تدلى علينا من ساكني ضان ، ولا تكون من مرتبطة بتدلى كما هي مرتبطة بالفعل في قولك : تدليت من الجبل ، لاستحالة تدليه من قوم لأنه لا يقال : تدليت من بني فلان ، قال : ويحتمل أن يكون قدوم مصدرا وصف به [ ص: 125 ] الفاعلون ، ويكون في الكلام حذف ، وتقديره : تدلى علينا من ذوي قدوم ، فحذف الموصوف وأقام المصدر مقامه ، كما لو قالوا : رجل صوم أي ذو صوم ، و" من " على هذا التقدير أيضا تبيين للجنس ، كما كانت في الوجه الأول . قال : ويحتمل أن يكون معناه : تدلى علينا من مكان قدوم ضأن ، ثم حذف المكان وأقام القدوم مكانه ، كما قالت العرب : ذهب به مذهب ، وسلك به مسلك ، يريد المكان الذي يسلك فيه ويذهب ، ويشهد لهذا رواية " من رأس ضان " ويحتمل أن يكون اسما لمكان قدوم بفتح القاف دون الضم لقلة الضم في هذا البناء في الأسماء وكثرة الفتح ، ويحتمل أن يكون : قدوم ضأن ، بتشديد الدال وفتح القاف ، لو ساعدته رواية ، لأنه من بناء أسماء المواضع ، وطرف القدوم موضع بالشام ، وعن ابن دريد : قدوم ثنية بسراة أرض دوس . وقال أبو عبيد : رواه الناس عن البخاري " ضأن " بالنون ، إلا الهمداني فإنه رواه " من قدوم ضال " ، باللام ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى ، والضال السدر البري ، وأما إضافة هذه الثنية إلى الضأن فلا أعلم لها معنى . وقد مر عن أبي داود أنه باللام ، وقال ابن الجوزي : كذا هو في أكثر الروايات . وزعم أبو ذر الهروي أن ضان بالنون جبل بأرض دوس ، بلد أبي هريرة ، وقيل ثنية .

                                                                                                                                                                                  قوله : " ينعى علي " من نعيت على الرجل فعله إذا عبته عليه . قوله : " قتل رجل " بالنصب مفعول ينعى ، أي : ينعى علي بأني قتلت رجلا أكرمه الله على يدي حيث صار شهيدا بواسطتي ، ولم يكن بالعكس ، إذ لو صرت مقتولا بيده لصرت مهانا من أهل النار ، إذا لم أكن حينئذ مسلما . قوله : " قال فلا أدري أسهم له " وهو من قول ابن عيينة ، أو من دونه إلى شيخ البخاري ، قاله ابن التين . قوله : " قال سفيان " أي : سفيان بن عيينة ، ووقع في رواية الحميدي في مسنده ، عن سفيان وحدثنيه السعيدي أيضا ، وفي رواية ابن أبي عمر عن سفيان " سمعت السعيدي " . قوله : " وحدثنيه السعيدي " معطوف على قوله : " حدثنا الزهري " وهو موصول بالإسناد الأول . قوله : " قال أبو عبد الله " هو البخاري نفسه ، هذا وقع هكذا ولغير أبي ذر .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه ، فيه أن الرجل قد يوبخ بما قد سلف إلا أن يتوب فلا توبيخ عليه ولا تثريب ، ألا يرى أن أبا هريرة لما وبخ ابن سعيد بن العاص على قتل ابن قوقل كيف رد عليه أقبح الرد ، وصارت له عليه الحجة كما صارت لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أنه وبخه بعد التوبة من الذنب . وفيه أن التوبة تمحو ما سلف قبلها من الذنوب ، القتل وغيره ، لقوله " أكرمه الله على يدي ولم يهني على يديه " لأن ابن قوقل وجبت له الجنة بقتل ابن سعيد له ولم يجب لابن سعيد النار لأنه أسلم ومات ، ويصحح هذا سكوته صلى الله عليه وسلم على قوله ، ولو كان غير صحيح لما لزمه السكوت لأنه بعث للبيان . وفيه قيل حجة على الكوفيين في قولهم في المدد يلحق بالجيش في أرض الحرب بعد الغنيمة : أنهم شركاؤهم في الغنيمة ، وسائر العلماء إنما تجب الغنيمة عندهم لمن شهد الوقعة ، واحتجوا بحديث أبي هريرة وأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسهم لهم ، وأبو حنيفة إنما يسهم لمن غاب عن الوقعة لشغل شغله به الإمام من أمور المسلمين ، كما فعل بعثمان رضي الله تعالى عنه حين قسم له من غنائم بدر بسهم ولم يحضرها لأنه كان غائبا في حاجة الله ورسوله فكان كمن حضرها ، أو مثل أن يبعثه الإمام لقتال قوم آخرين فيصيب الإمام غنيمة بعد مفارقة الرجل إياه ، أو يبعث رجلا ممن معه في دار الحرب إلى دار الإسلام ليمده بسلاح ورجال فلا يعود ذلك الرجل إلى الإمام حتى يقسم غنيمته فهو شريك فيها وهو كمن حضرها ، وكذلك كل من أراد الغزو فرده الإمام وشغله بشيء من أمور المسلمين فهو كمن حضرها . وقال الطحاوي رحمه الله : وأما حديث أبي هريرة فإنما ذلك - والله أعلم - لأنه وجه أبان لنجد قبل أن يتهيأ خروجه إلى خيبر فتوجه أبان ثم حدث خروجه إلى خيبر فكان ما غاب فيه أبان ليس هو شغل شغل به عن حضورها بعد إرادته إياها فيكون كمن حضرها .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية