الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2637 8 - حدثنا يحيى بن صالح ، قال : حدثنا فليح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها . فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نبشر الناس ! قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة . أراه قال : وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " إن في الجنة مائة درجة " إلى قوله : " ما بين الدرجتين " . ويحيى بن صالح الوحاظي ، أبو زكرياء الشامي الدمشقي ، ويقال الحمصي ، وهو من جملة الأئمة الحنفية أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه . وفليح ، بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة ، ابن سليمان ، وكان اسمه عبد الملك ولقبه فليح فغلب عليه واشتهر به . وهلال بن علي ، هو هلال بن أبي ميمونة ، ويقال : هلال بن أبي هلال الفهري المدني. وعطاء بن يسار ، ضد اليمين .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في التوحيد عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه به . وأخرجه الترمذي فقال : حدثنا قتيبة وأحمد بن عبدة الضبي ، قالا : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن معاذ بن جبل ، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، قال : " من صام رمضان وصلى الصلوات وحج البيت - لا أدري أذكر الزكاة أم لا - إلا كان حقا على الله أن يغفر له ، إن هاجر في سبيل الله أو مكث بأرضه التي ولد بها . قال معاذ : ألا أخبر بها الناس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذر الناس يعملون ، فإن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلى الجنة وأوسطها ، وفوق ذلك عرش الرحمن ، ومنها تفجر أنهار الجنة ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس .

                                                                                                                                                                                  قوله : " عن عطاء بن يسار " كذا وقع في رواية الأكثرين . وقال أبو عامر العقدي : عن فليح عن هلال عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، بدل عطاء بن يسار . أخرجه أحمد وإسحاق في مسنديهما عنه ، وهو وهم من فليح في حال تحديثه لأبي عامر ، وعند فليح بهذا الإسناد حديث غير هذا ، وهو في الباب الذي يليه حيث قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا محمد بن فليح ، قال : حدثني أبي ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الحديث ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وأقام الصلاة وصام رمضان " ، وقال ابن بطال : هذا الحديث كان قبل فرض الزكاة والحج ، فلذلك لم يذكر فيه ، وقال صاحب التلويح : وفيه نظر من حيث إن الزكاة فرضت قبل خيبر ، وهذا رواه أبو هريرة ، ولم يأت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلا بخيبر . وقال الكرماني : لعل الزكاة والحج لم يكونا واجبين في ذلك الوقت ، أو على التسامح ، انتهى . قلت : هذا أيضا تبع ابن بطال وقد ثبت [ ص: 90 ] الحج في الترمذي في حديث معاذ بن جبل ، وقال فيه : لا أدري أذكر الزكاة أم لا . قوله : " أو على التسامح " يمكن أن يكون جوابا لعدم ذكر الزكاة والحج ، لأن الزكاة لا تجب إلا على الغني بشرطه ، والحج يجب في العمر مرة على التراخي . قوله : " كان حقا على الله " ، قال الكرماني : أي كالحق . قلت : معناه حق بطريق الفضل والكرم لا بطريق الوجوب . قوله : " أو جلس في أرضه " ، وفي بعض النسخ " أو جلس في بيته " فيه تأنيس لمن حرم الجهاد في سبيل الله ، فإن له من الإيمان بالله والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة لأنها هي غاية الطالبين ومن أجلها بذل النفوس في الجهاد خلافا لما يقوله بعض جهلة المتصوفة ، وفي صحيح مسلم من حديث أنس يرفعه " من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه " . وعند الحاكم " من سأل القتل صادقا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد " وعند النسائي بسند جيد عن معاذ يرفعه " من سأل الله من عند نفسه صادقا ثم مات أو قتل فله أجر شهيد " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " قالوا يا رسول الله " قيل : الذي خاطبه بذلك معاذ بن جبل ، كما في حديث الترمذي الذي مضى ، أو أبو الدرداء ، كما وقع عند الطبراني . قوله : " إن في الجنة مائة درجة " ، قال الكرماني : قيل لما سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجهاد في سبيل الله وعدمه في دخول الجنة ورأى استبشار السامع بذلك لسقوط مشاق الجهاد عنه ، استدرك بقوله : " إن في الجنة مائة درجة " كذا وكذا ، وأما الجواب فهو من الأسلوب الحكيم ، أي : بشرهم بدخول الجنة بالإيمان ولا تكتف بذلك بل زد عليها بشارة أخرى وهو الفوز بدرجات الشهداء وبل بشرهم أيضا بالفردوس . قلت : قوله : " وأما الجواب إلى آخره من كلام الطيبي ، واعترض عليه بعضهم بقوله : لو لم يرد الحديث إلا كما وقع هنا لكان ما قال متجها لكن وردت في الحديث زيادة دلت على أن قوله : " في الجنة مائة درجة " تعليل لترك البشارة المذكورة ، فعند الترمذي من رواية معاذ المذكورة " قلت : يا رسول الله ألا أخبر الناس ؟ قال : ذر الناس يعملون ، فإن في الجنة مائة درجة " فظهر أن المراد : لا تبشر الناس بما ذكرته من دخول الجنة لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه فيقفوا عند ذلك ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه من الدرجات التي تحصل بالجهاد ، وهذه هي النكتة في قوله : " أعدها للمجاهدين " انتهى . قلت : كلام الطيبي متجه والاعتراض عليه غير وارد أصلا ، لأن قوله : لكن وردت في الحديث زيادة ، إلى آخره ، غير مسلم ، لأن الزيادة المذكورة في حديث معاذ بن جبل وكلام الطيبي وغيره في حديث أبي هريرة ، وكل واحد من الحديثين مستقل بذاته ، والراوي مختلف ، فكيف يكون ما في حديث معاذ تعليلا لما في حديث أبي هريرة على أن حديث معاذ هذا لا يعادل حديث أبي هريرة ولا يدانيه ، فإن عطاء بن يسار لم يدرك معاذا ، قال الترمذي : عطاء لم يدرك معاذ بن جبل معاذ قديم الموت ، مات في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  قوله : " كما بين السماء والأرض " وفي رواية الترمذي من رواية شريك عن محمد بن جحادة عن عطاء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام " ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وفي رواية الطبراني من هذا الوجه " خمسمائة عام " ، وروى الترمذي قال : حدثنا قتيبة ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة مائة درجة ، لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم " ، قال : هذا حديث غريب .

                                                                                                                                                                                  قوله : " الفردوس " قيل : هو البستان الذي يجمع ما في البساتين كلها من شجر وزهر ونبات . وقيل : هو متنزه أهل الجنة . وفي الترمذي : هو ربوة الجنة . وقيل : الذي فيه العنب ، يقال : كرم مفردس ، أي : معرش . وقيل : هو البستان بالرومية ، فنقل إلى العربية ، وهو مذكر وإنما أنث في قوله تعالى : يرثون الفردوس هم فيها خالدون قال الجواليقي عن أهل اللغة : وقال الزجاج الفردوس الأودية التي تنبت ضروبا من النبات ، وهو لفظ سرياني ، وقيل : أصله بالنبطية فرداسا ، وقيل الفردوس يعد بابا من أبواب الجنة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " أوسط الجنة " أي : أفضلها ، كما في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا أي : خيارا . وقال ابن بطال : يحتمل أن يريد متوسط الجنة ، والجنة قد حفت بها من كل جهة . قوله : " وأعلى الجنة " يعني : أرفعها ، لأن الله مدح الجنان إذا كانت في علو وقال : كمثل جنة بربوة وقال ابن حبان : المراد بالأوسط السعة ، وبالأعلى الفوقية . وقيل : الحكمة في الجمع بين الأعلى والأوسط أنه أراد بأحدهما الحسي وبالآخر المعنوي . وقال بعضهم : المراد بالأوسط هنا الأعدل والأفضل ، كقوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتأكيد ، انتهى . قلت : سبحان الله هذا كلام عجيب وليت شعري هل أراد بالتأكيد التأكيد اللفظي أو التأكيد المعنوي ، ولا يصح أن يراد أحدهما على المتأمل . قوله : [ ص: 91 ] " أراه " بضم الهمزة ، أي : أظنه ، وهذا من كلام يحيى بن صالح شيخ البخاري فيه ، وقد رواه غيره عن فليح بغير شك ، منهم يونس بن محمد عند الإسماعيلي وغيره . قوله : " ومنه " أي : من الفردوس ، وقد وهم من أعاد الضمير إلى العرش . قوله : " تفجر " أصله تتفجر بتاءين فحذفت إحداهما ، أي : تتشقق .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية