الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              4526 536 \ 4361 - وعن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار، عن رجال من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود - وبدأ بهم - : يحلف منكم خمسون رجلا، فأبوا، فقال للأنصار : استحقوا ، قالوا : نحلف على الغيب يا [ ص: 115 ] رسول الله؟! فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود; لأنه وجد بين أظهرهم .

                                                              قال بعضهم: وهذا ضعيف لا يلتفت إليه.

                                                              وقد قيل للإمام الشافعي رحمه الله: فما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب؟ قلت: مرسل، والقتيل أنصاري، والأنصاريون بالعناية، أولى بالعلم به من غيرهم إذا كان كل ثقة، وكل عندنا بنعمة الله ثقة.

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: وهذا الحديث له علة، وهي أن معمرا انفرد به، عن الزهري، وخالفه ابن جريج وغيره، فرووه عن الزهري، بهذا الإسناد بعينه، عن أبي سلمة وسليمان، عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود ، ذكره البيهقي. والقسامة في الجاهلية، كانت قسامة الدم.

                                                              وفي قول الشافعي: "إن حديث ابن شهاب مرسل" نظر، والرجال من الأنصار، لا يمتنع أن يكونوا صحابة. فإن أبا سلمة وسليمان كل منهما من [ ص: 116 ] التابعين، قد لقي جماعة من الصحابة، إلا أن الحديث غير مجزوم باتصاله، لاحتمال كون الأنصاريين من التابعين والله أعلم.

                                                              قال البيهقي: وأصح ما روي في القتل بالقسامة، وأعلاه بعد حديث سهل، ما رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار - وهو سكران - رجلا آخر من الأنصار من بني النجار، في عهد معاوية، ولم يكن على ذلك شهادة إلا لطخ وشبهة .

                                                              قال فاجتمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول، ثم يسلم إليهم، فيقتلوه، قال خارجة بن زيد: فركبنا إلى معاوية، وقصصنا عليه القصة، فكتب معاوية إلى سعيد بن العاص ... فذكر الحديث وفيه: فقال سعيد: أنا منفذ كتاب أمير المؤمنين، فاغدوا على بركة الله، فغدونا عليه، فأسلمه إلينا سعيد، بعد أن حلفنا عليه خمسين يمينا .

                                                              وفي بعض طرقه : وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم، أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة .

                                                              وأما حديث محمد بن راشد، عن مكحول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقض [ ص: 117 ] في القسامة بقود ، فمنقطع.

                                                              وأما ما رواه الثوري في "جامعه"، عن عبد الرحمن، عن

                                                              القاسم بن عبد الرحمن ، أن عمر بن الخطاب قال: القسامة توجب العقل ولا تشيط الدم ، فمنقطع موقوف.

                                                              وأما حديث الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه استحلف اليهود خمسين يمينا، ثم جعل عليهم الدية ، فلا يحل لأحد معارضة رواية الأئمة الثقات بالكلبي وأمثاله.

                                                              وأما حديث عمر بن صبح، عن مقاتل بن حيان، عن صفوان، عن ابن المسيب، عن عمر في قضائه بذلك، وقوله: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز أيضا معارضة الأحاديث الثابتة، بحديث من أجمع علماء الحديث على ترك الاحتجاج به، وهو ابن صبح الذي لم يسفر صباح صدقه في الرواية.

                                                              [ ص: 118 ] وأما حديث سفيان بن عيينة، عن منصور، عن الشعبي : أن عمر بن الخطاب كتب في قتيل وجد بين جيزان ووادعة: أن يقاس ما بين الفريقين، فإلى أيهما كان أقرب أخرج منهم خمسين رجلا حتى يوافوه بمكة، فأدخلهم الحجر فأحلفهم، ثم قضى عليهم بالدية، فقالوا: ما وقت أموالنا أيماننا، ولا أيماننا أموالنا، فقال عمر: كذلك الأمر ، وفي لفظ قال عمر: " حقنت بأيمانكم دماءكم، ولا يطل دم امرئ مسلم فقال [ ص: 119 ] الشافعي وقد قيل له: هذا ثابت عندك ؟ قال: لا، إنما رواه الشعبي، عن [ق225] الحارث الأعور، والحارث مجهول، ونحن نروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإسناد الثابت، أنه بدأ بالمدعين، فلما لم يحلفوا قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، وإذ قال: " فتبرئكم " لم يكن عليهم غرامة، ولما لم يقبل الأنصار أيمانهم وداه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل على يهود شيئا، والقتيل بين أظهرهم.

                                                              وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: سافرت إلى جيزان ووادعة، ثلاثا وعشرين سفرة أسألهم، عن حكم عمر بن الخطاب في القتيل، وأحكي لهم ما روي عنه، فقالوا: " إن هذا لشيء ما كان ببلدنا قط ".

                                                              قال الشافعي: والعرب أحفظ شيء لأمر كان.

                                                              [ ص: 120 ] وأما حديث أبي سعيد الخدري: أن قتيلا وجد بين حيين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاس إلى أيهما أقرب، فوجد أقرب، إلى أحد الحيين بشبر، فألقى ديته عليهم ; فرواه أحمد في مسنده، وهو من رواية أبي إسرائيل الملائي، عن عطية العوفي، وكلاهما فيه ضعف. ومع هذا فليس فيه ما يضاد حديث القسامة.

                                                              وقد ذهب إليه أحمد، في رواية حكاه [المروذي] في "كتاب الورع" عنه.

                                                              وأما حديث ابن عباس : لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه ، فهذا إنما يدل على أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه دم رجل ولا ماله، وأما في القسامة فلم يعط الأولياء فيها بمجرد دعواهم بل بالبينة، وهي ظهور اللوث وأيمان خمسين، لا بمجرد الدعوى، وظهور اللوث، وحلف خمسين بينة، بمنزلة الشهادة أو أقوى.

                                                              وقاعدة الشرع: أن اليمين تكون في جنبة أقوى المتداعيين، ولهذا يقضى للمدعي بيمينه، إذا نكل المدعى عليه، كما حكم به الصحابة لقوة جنبته بنكول الخصم المدعى عليه، ولهذا يحكم له بيمينه، إذا أقام شاهدا واحدا; [ ص: 121 ] لقوة جنبته بالشاهد، فالقضاء بها في القسامة مع قوة جنبة المدعين باللوث الظاهر أولى وأحرى.

                                                              وطرد هذا القضاء بها في باب اللعان: إذا لاعن الزوج ونكلت المرأة، فإن الذي يقوم عليه الدليل، أن الزوجة تحد، وتكون أيمان الزوج بمنزلة الشهود، كما قاله مالك والشافعي.

                                                              وقال أبو حنيفة: لا يقتل في الموضعين، وقال مالك: يقتل في الموضعين، وقال أحمد: يقتل في القسامة دون اللعان، وقال الشافعي: يقتل في اللعان دون القسامة; وقول مالك أرجح وعليه تدل الأدلة.




                                                              الخدمات العلمية