الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              4720 570 \ 4555 - وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم الحديث . وقد تقدم.

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: هذا ما ذكره أبو داود في الباب.

                                                              حديث "كل مولود يولد على الفطرة ..." لفظ "الصحيحين" فيه : " ما من مولود إلا يولد على الفطرة وأبواه يهودانه" - الحديث.

                                                              وفي لفظ آخر: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه"، فقال رجل: أرأيت يا رسول الله، لو مات قبل ذلك ؟ قال الله أعلم بما كانوا عاملين" .

                                                              وفي لفظ آخر: ما من مولود يولد إلا وهو على الملة .

                                                              [ ص: 211 ] وفي لفظ آخر: على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه .

                                                              وفي لفظ آخر: ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة، حتى يعبر عنه لسانه .

                                                              وفي لفظ آخر: ما من مولود يولد إلا على [هذه] الفطرة .

                                                              وفي لفظ آخر: كل إنسان تلده أمه على الفطرة، وأبواه بعد يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم .

                                                              وهذه الألفاظ كلها في "الصحيحين" إلا لفظ " الملة " فهو لمسلم، وكذا لفظ : " يشركانه " له أيضا،

                                                              وكذا قوله : "حتى يعبر عنه لسانه "، وكذا لفظ : " فإن كانا مسلمين فمسلم " لمسلم وحده.

                                                              [ق240] وإنما سقنا هذه الألفاظ لنبين بها أن الكلام جملتان، لا جملة واحدة، وأن قوله : " كل مولود يولد على الفطرة" جملة مستقلة، وقوله : " أبواه يهودانه ...- إلى آخره " جملة أخرى، وهو يبين غلط من زعم أن الكلام جملة واحدة، وأن المعنى: كل مولود يولد بهذه الصفة فأبواه يهودانه، وجعل الخبر عند قوله " يهودانه إلى آخره ".

                                                              وألفاظ الحديث تدل على خطأ هذا القائل، وتدل أيضا على أن الفطرة هي فطرة الإسلام، ليست الفطرة العامة التي فطر عليها من الشقاوة والسعادة، لقوله: " على هذه الفطرة " وقوله: " على هذه الملة ".

                                                              [ ص: 212 ] وسياقه أيضا يدل على أنها هي المراد، لإخباره بأن الأبوين هما اللذان يغيرانها، ولو كانت الفطرة هي فطرة الشقاوة والسعادة لقوله: " على هذه الفطرة " لكان الأبوان مقررين لها.

                                                              ولأن قراءة قوله تعالى : فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم عقب الحديث: صريح في أن المراد بها فطرة الإسلام.

                                                              ولأن تشبيه المولود في ولادته عليها بالبهيمة الجمعاء، -وهي الكاملة الخلق-، ثم تشبيهه إذا خرج عنها بالبهيمة التي جدعها أهلها فقطعوا آذانها دليل على أن الفطرة هي الفطرة المستقيمة السليمة، وما يطرأ على المولود من التهويد والتنصير بمنزلة الجدع والتغيير في ولد البهيمة.

                                                              ولأن الفطرة حيث جاءت مطلقة معرفة باللام لا يراد بها إلا فطرة التوحيد والإسلام وهي الفطرة الممدوحة، ولهذا جاء في حديث الإسراء " لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم اللبن، قيل له: أصبت الفطرة ، ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن يقول "الله أكبر الله أكبر" قال: " على الفطرة " ، وحيث جاءت [ ص: 213 ] الفطرة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد بها فطرة الإسلام لا غير، ولم يجئ قط في كلامه مرادا بها فطرة الشقاوة وابتداء الخلقة في موضع واحد.

                                                              ولفظ الحديث يدل على أنه غير منسوخ، وأنه يستحيل فيه النسخ، كما قال بعضهم، لأنه خبر محض، وليس حكما يدخل تحت الأمر والنهي، فلا يدخله النسخ.

                                                              وأما حديث عائشة في قصة الصبي من الأنصار، فرده الإمام أحمد وطعن فيه، وقال: من يشك أن أولاد المسلمين في الجنة؟!، وقال أيضا: إنهم لا اختلاف فيهم.

                                                              وأما مسلم: فأورده في "صحيحه" كما تقدم.

                                                              ومن انتصر للحديث وصححه يقول: الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة إنما كان لشهادتها للطفل المعين بأنه في الجنة، كالشهادة للمسلم المعين، فإن الطفل تبع لأبويه، فإذا كان أبواه لا يشهد لهما بالجنة، فكيف يشهد للطفل التابع لهما؟ والإجماع إنما هو على أن أطفال المسلمين من حيث الجملة مع آبائهم، فيجب الفرق بين المعين والمطلق.

                                                              [ ص: 214 ] وفي "صحيح أبي حاتم" من حديث عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الجنة .

                                                              وقد روى البخاري في "صحيحه"، عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا، قال: فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: أتاني الليلة آتيان - فذكر حديث الرؤيا بطوله إلى أن - قال فأتينا على روضة معتمة من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل أكثر ولدان رأيتهم قط، وقال فيه : وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال : فقال بعض المسلمين : يا رسول الله، وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاد المشركين .

                                                              وفي "الصحيحين"، عن ابن عباس: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أولاد المشركين، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم .

                                                              [ ص: 215 ] وفي "الصحيحين"، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا .

                                                              وفي "الصحيحين"، عن الصعب بن جثامة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم .

                                                              وفي لفظ لهما: هم من آبائهم .

                                                              وهذه الأحاديث لا تناقض بينها، بل يصدق بعضها بعضا. وقد اختلف العلماء في الأطفال على ثمانية أقوال:

                                                              أحدها: الوقف فيهم، وترك الكلام في مستقرهم، ويوكل علمهم إلى الله تعالى.

                                                              قال هؤلاء: وظواهر " السنن" وأجوبة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس وأبي هريرة يدل على ذلك، إذ وكل علمهم إلى الله، وقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

                                                              قالوا: وقد روى ابن حبان في "صحيحه" من حديث جرير بن حازم [ ص: 216 ] قال: سمعت أبا رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس يقول - وهو على المنبر - قال [ق241] رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال أمر هذه الأمة موائما أو مقاربا-، ما لم يتكلموا في الولدان والقدر . قال أبو حاتم : الولدان أراد بهم أطفال المشركين.

                                                              وفيما استدلت به هذه الطائفة نظر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجب فيهم بالوقف، وإنما وكل علم ما كانوا يعملونه لو عاشوا إلى الله، وهذا جواب، عن سؤالهم: " كيف يكونون مع آبائهم بغير عمل؟" وهو طرف من الحديث.

                                                              [ ص: 217 ] ويدل عليه حديث عائشة الذي ذكره أبو داود في أول باب، والنبي صلى الله عليه وسلم وكل العلم بعملهم إلى الله، ولم يقل " الله أعلم حيث يستقرون، أو أين يكونون ". فالدليل غير مطابق لمذهب هذه الطائفة.

                                                              وأما حديث ابن عباس في المنع من الكلام فيهم، ففي القلب من رفعه شيء، وبالجملة فإنما يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم، أو ضرب الأحاديث فيهم بعضها ببعض، كما فعل الذين أنكر عليهم كلامهم في القدر، وأما من تكلم فيهم بعلم وحق فلا يذم.

                                                              القول الثاني: إن أطفال المشركين في النار. وهذا مذهب طائفة، وحكاه القاضي أبو يعلى رواية، عن أحمد، قال شيخنا: وهو غلط منه على أحمد، وسبب غلطه أن أحمد سئل عنهم فقال: هم على الحديث، قال القاضي: أراد حديث خديجة إذ سألت النبي صلى الله عليه وسلم، عن أولادها الذين ماتوا قبل الإسلام فقال: إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار .

                                                              قال شيخنا: [ ص: 218 ] وهذا حديث موضوع، وأحمد أجل من أن يحتج بمثله، وإنما أراد حديث عائشة: الله أعلم بما كانوا عاملين .

                                                              والقول الثالث: إنهم في الجنة، واحتج هؤلاء بحديث سمرة الذي رواه البخاري.

                                                              واحتجوا بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وبقوله : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ، فهذا دليل على أن كل فوج يلقى في النار لا بد وأن يكونوا قد جاءهم النذير وكذبوه، وهذا ممتنع في حق الأطفال.

                                                              واحتجوا بقوله تعالى لإبليس: لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، قالوا: فإذا امتلأت منه ومن أتباعه لم يبق فيها موضع لغيرهم.

                                                              واحتجوا بقوله لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، قالوا: فالله تعالى لا يعذب أحدا إلا بذنبه، فالنار دار عدله لا يدخلها أحدا إلا بعمل، وأما الجنة فدار فضله يدخلها بغير عمل، ولهذا ينشئ للفضل الذي يبقى فيها أقواما يسكنهموه.

                                                              وأما الحديث الذي ورد في بعض طرق البخاري: وأما النار فينشئ الله لها خلقا يسكنهم إياها ، فغلط من الراوي انقلب عليه لفظه، وإنما هو : [ ص: 219 ] وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا ، وقد ذكره البخاري، وسياق الحديث يدل على ذلك.

                                                              قالوا: وأما حديث عائشة والصعب بن جثامة، فليس فيه أنهم في النار، وإنما فيه أنهم "من آبائهم" تبع لهم في الحكم، وأنهم إذا أصيبوا في البيات لم يضمنوا بدية ولا كفارة، وهذا ظاهر في حديث الصعب.

                                                              وأما حديث عائشة فقد ضعفه غير واحد، قالوا: وحديث خديجة باطل لا يصح.

                                                              والقول الرابع: إنهم بين الجنة والنار، إذ لا معصية لهم توجب دخول النار، ولا إسلام يوجب لهم دخول الجنة.

                                                              وهذا أيضا ليس بشيء، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة والنار، وأما الأعراف، فإن مآل أصحابها إلى الجنة، كما قاله الصحابة.

                                                              والقول الخامس: إنهم تحت المشيئة، يجوز أن يعذبهم وأن ينعمهم، [ ص: 220 ] وأن يعذب بعضا، وينعم بعضا، وهذا قول كثير من المثبتين للقدر، وقول الجبرية ونفاة التعليل والحكم.

                                                              والقول السادس: إنهم ولدان أهل الجنة وخدمهم، وقد روي في ذلك حديث لا يثبت.

                                                              والقول السابع: إن حكمهم حكم الآباء في الدنيا والآخرة، فلا حكم لهم غير حكم آبائهم. فكما هم معهم تبع في الدنيا، فكذلك في الآخرة.

                                                              والقول الثامن: إنهم يمتحنون في الآخرة، فمن أطاع منهم أدخله الجنة، ومن عصى عذبه.

                                                              وقد روي في هذا من حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة وغيرهما مرفوعا، وهي أحاديث يشد بعضها بعضا.

                                                              [ ص: 221 ] وهذا أعدل الأقوال، وبه يجتمع شمل الأدلة وتتفق الأحاديث في هذا الباب.

                                                              وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة كما في حديث سمرة، وبعضهم في النار كما دل عليه حديث عائشة، وجواب النبي صلى الله عليه وسلم يدل على هذا، فإنه قال: الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم .

                                                              ومعلوم أن الله لا يعذبهم بعلمه فيهم ما لم يقع معلومه، فهو إنما يعذب من يستحق العذاب على معلومه، وهو متعلق علمه السابق فيه، لا على علمه المجرد، وهذا العلم يظهر معلومه في الدار الآخرة.

                                                              وفي قوله : الله أعلم بما كانوا عاملين ، إشارة إلى أنه سبحانه كان يعلم ما كانوا عاملين لو عاشوا، وأن من يطيعه وقت الامتحان [ق242] كان يطيعه لو عاش في الدنيا، ومن يعصيه حينئذ كان ممن يعصيه لو عاش في الدنيا، فهو دليل على تعلق علمه بما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

                                                              [ ص: 222 ] وقيل: إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه الله بمصيرهم ومستقرهم; وليس بشيء، فإنه لا تعرض في هذا المستقر، كما تقدم.

                                                              وقيل معناه الله أعلم على أي دين يميتهم لو عاشوا وبلغوا العمل، فأما إذا عدم فيهم العمل فهم في رحمة الله; وهذا بعيد من دلالة اللفظ عليه، والله أعلم.




                                                              الخدمات العلمية