الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              وقوله " فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء "، احتج به من يرى الأقراء هي الأطهار. قالوا: واللام بمعنى الوقت، كقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس وقول العرب: كتب لثلاث مضين ولثلاث بقين. وفي الحديث فليصلها حين ذكرها، ومن الغد للوقت ، قالوا فهذه اللام الوقتية بمعنى ( في ) ".

                                                              وأجاب الآخرون، عن هذا بأن "اللام" في قوله تعالى: فطلقوهن لعدتهن هي اللام المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم أن تطلق لها النساء ، ولا يصح أن تكون وقتية، ولا ذكر أحد من أهل العربية أن اللام تأتي بمعنى "في" أصلا، ولا يصح أن تكون هنا بمعنى " في "، ولو صح في غير هذا الموضع - ، لأن الطلاق لا يكون في نفس العدة، ولا تكون عدة الطلاق ظرفا له قط، وإنما اللام هنا على بابها للاختصاص.

                                                              والمعنى [ ص: 516 ] طلقوهن مستقبلات عدتهن .

                                                              ويفسر هذا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: فطلقوهن في قبل عدتهن ، أي في الوقت الذي تستقبل فيه العدة.

                                                              وعلى هذا فإذا طلقها في طهرها استقبلت العدة من الحيضة التي تليه، فقد طلقها في قبل عدتها، بخلاف ما إذا طلقها حائضا، فإنها لا تعتد بتلك الحيضة، وينتظر فراغها وانقضاء الطهر الذي يليها ثم تشرع في العدة، فلا يكون طلاقها حائضا طلاقا في قبل عدتها.

                                                              وقد أفردت لهذه المسألة مصنفا مستقلا ذكرت فيه مذاهب الناس ومآخذهم، وترجيح القول الراجح، والجواب عما احتج به أصحاب القول الآخر.

                                                              وقوله مره فليراجعها دليل على أن الأمر بالأمر بالشيء أمر به. وقد اختلف الناس في ذلك، وفصل النزاع: أن المأمور الأول إن كان مبلغا محضا، كأمر النبي صلى الله عليه وسلم آحاد الصحابة أن يأمر الغائب عنه بأمره، فهذا أمر به من جهة الشارع قطعا، ولا يقبل ذلك نزاعا أصلا، ومنه قوله مرها فلتصبر ولتحتسب ، وقوله مروهم بصلاة كذا في حين كذا ونظائره، فهذا [ ص: 517 ] الثاني مأمور به من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا عصاه المبلغ إليه فقد عصى أمر الرسول صلوات الله وسلامه عليه، والمأمور الأول مبلغ محض.

                                                              وإن كان الأمر متوجها إلى المأمور الأول توجه التكليف، والثاني غير مكلف، لم يكن أمرا للثاني من جهة الشارع، كقوله صلى الله عليه وسلم مروهم بالصلاة لسبع . فهذا الأمر خطاب للأولياء بأمر الصبيان بالصلاة، فهذا فصل الخطاب في هذا الباب. والله أعلم بالصواب.

                                                              فهذه كانت نبهنا بها على بعض فوائد حديث ابن عمر، ولا تستطلها، فإنها مشتملة على فوائد جمة، وقواعد مهمة، ومباحث من قصده الظفر بالحق، وإعطاء كل ذي حق حقه، من غير ميل مع ذي مذهب، ولا خدمة لإمامه وأصحابه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل تابع للدليل، حريص على الظفر بالسنة والسبيل، يدور مع الحق أنى توجهت ركائبه، ويستقر معه حيث استقرت مضاربه.

                                                              ولا يعرف قدر هذا السير إلا من علت همته، وتطلعت نوازع قلبه، واستشرفت نفسه إلى الارتضاع من ثدي الرسالة، والورود من عين حوض النبوة، والخلاص من شباك الأقوال المتعارضة، والآراء المتناقضة، إلى [ ص: 518 ] فضاء العلم الموروث، عمن لا ينطق، عن الهوى، ولا يتجاوز نطقه البيان والرشاد والهدى وبيداء اليقين التي من حلها حشر في زمرة العلماء، وعد من ورثة الأنبياء، وما هي إلا أوقات محدودة، وأنفاس على العبد معدودة، فلينفقها فيما شاء.


                                                              أنت القتيل بكل من أحببته فانظر لنفسك في الهوى من تصطفي



                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية