الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: الشرط الثاني: أن يكون الموهوب مالا شرعا قال الكاساني: "ومنها - أي: من شروط الموهوب - أن يكون مالا متقوما، فلا تجوز هبة ما ليس بمال".

        وقال القرافي: "الركن الثالث: الموهوب: وهو كل مملوك يقبل النقل مباح في الشرع".

        وقال الشربيني: "وكل ما جاز بيعه جاز هبته".

        وقال البهوتي: "وما جاز بيعه جاز هبته".

        [ ص: 250 ] وفيها أمران: الأمر الأول: هبة المال المحرم:

        المال الحرام: كل ما حرم الشارع كسبه، أو الانتفاع به.

        هبة المال المحرم ينقسم إلى أقسام:

        القسم الأول: أن يكون محرما لعينه، وهو ما حرم الشارع الانتفاع به لخاصية في ذاته من ضرر، أو خبث، أو قذارة كالخمر، والخنزير، والميتة، والدم.

        فأكثر الفقهاء كما سبق تحريم هبته; لأنه ليس مالا شرعا; لقوله تعالي:

        حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به .

        (110 ) لما رواه مسلم من طريق علقمة بن وائل، عن أبيه وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهى أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: "إنه ليس بدواء ولكنه داء".

        وذهب بعض الحنابلة: إلى أنه تصح هبة ما يباح الانتفاع به من النجاسات.

        في كشاف القناع: "(واختار جمع وكلب ) أي: تصح هبته، جزم به في المغني والكافي (ونجاسة مباح نفعهما ) أي: الكلب والنجاسة جزم به الحارثي والشارح; لأنه تبرع أشبه الوصية به، قال في القاعدة السابعة [ ص: 251 ] والثمانين: وليس بين القاضي وصاحب المغني خلاف في الحقيقة; لأن نقل اليد في هذه الأعيان جائز كالوصية، وقد صرح به القاضي في خلافه".

        وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يجوز الانتفاع بالنجاسات كما جاء في الاختيارات: ويجوز الانتفاع بالنجاسات، وسواء في ذلك شحم الميتة وغيره، وهو قول الشافعي، وأومأ إليه أحمد في رواية ابن منصور، فظاهره جواز هبته; إذ إن شيخ الإسلام يتوسع في باب الهبة، فيجوز هبة المجهول، وغير المقدور على تسليمه، والمعدوم، كما وضحته في شروط صحة الهبة.

        ويدل لهذا:

        (111 ) ما رواه البخاري ومسلم من طريق عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح - وهو بمكة: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟، فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها أجملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه".

        في الحديث جواز الانتفاع بالنجاسات، وإذا ثبت هذا جاز هبتها. والخلاصة: أن هبة المحرم لعينه لا تخلو من حالتين:

        الحال الأولى: هبته لما يتضمنه من منافع مباحة، فجائز.

        الحال الثانية: هبته لما يتضمنه من منافع محرمة، فلا يجوز.

        [ ص: 252 ] القسم الثاني: أن يكون محرما لكسبه، وتحته حالتان:

        الحال الأولى: المأخوذ بغير رضا مالكه ولا إذن الشارع، كالمسروق والمغصوب والمنتهب، فهذا يجب رده على صاحبه إن علمه، أو علم ورثته بالإجماع.

        قال ابن هبيرة: "واتفقوا على أنه يجب على الغاصب رد المغصوب إن كانت عينه قائمة، ولم يخف من نزعها إتلاف نفس".

        قال الشوكاني رحمه الله: "ومجمع على وجوب رد المغصوب إذا كان باقية".

        وما ذكروه في الغصب جار فيما عداه من المكاسب المحرمة; لأنها في حكمه.

        فإن جهله تصدق به على الفقراء والمساكين، وبه قال جمهور أهل العلم: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد.

        وحجتهم:

        1 - قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم ، وهذا لم يستطع أن يرده إلى صاحبه.

        2 - ورود ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.

        قال ابن القيم: "وأما في حقوق العباد فيتصور في مسائل إحداها من [ ص: 253 ] غصب أموالا، ثم تاب وتعذر عليه ردها إلى أصحابها، أو إلى ورثتهم لجهله بهم، أو لانقراضهم، أو لغير ذلك، فاختلف في توبة مثل هذا:

        فقالت طائفة: لا توبة له إلا بأداء هذه المظالم إلى أربابها، فإذا كان ذلك قد تعذر عليه فقد تعذرت عليه التوبة، والقصاص أمامه يوم القيامة بالحسنات والسيئات ليس إلا، قالوا: فإن هذا حق للآدمي لم يصل إليه، والله سبحانه لا يترك من حقوق عباده شيئا، بل يستوفيها لبعضهم من بعض، ولا يجاوزه ظلم ظالم، فلا بد أن يأخذ للمظلوم حقه من ظالمه، ولو لطمة، ولو كلمة، ولو رمية بحجر، قالوا: وأقرب ما لهذا في تدارك الفارط منه أن يكثر من الحسنات ليتمكن من الوفاء منها يوم لا يكون الوفاء بدينار ولا بدرهم فيتجر تجارة يمكنه الوفاء منها، ومن أنفع ما له الصبر على ظلم غيره له وأذاه وغيبته وقذفه، فلا يستوفي حقه في الدنيا، ولا يقابله ليحيل خصمه عليه إذا أفلس من حسناته، فإنه كما يؤخذ منه ما عليه يستوفي أيضا ما له، وقد يتساويان، وقد يزيد أحدهما عن الآخر.

        ثم اختلف هؤلاء في حكم ما بيده من الأموال:

        فقالت طائفة: يوقف أمرها ولا يتصرف فيها ألبتة.

        وقالت طائفة: يدفعها إلى الإمام أو نائبه; لأنه وكيل أربابها فيحفظها لهم، ويكون حكمها حكم الأموال الضائعة.

        وقالت طائفة أخرى: بل باب التوبة مفتوح لهذا ولم يغلقه الله عنه، ولا عن مذنب، وتوبته أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها، فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان لهم الخيار بين أن يجيزا ما فعل، وتكون أجورها لهم، وبين أن لا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم ويكون ثواب تلك الصدقة له; إذ لا يبطل الله سبحانه ثوابها ولا يجمع لأربابها بين العوض والمعوض فيغرمه إياها، ويجعل أجرها لهم، وقد غرم من حسناته بقدرها.

        [ ص: 254 ] وهذا مذهب جماعة من الصحابة، كما هو مروي عن ابن مسعود ومعاوية وحجاج بن الشاعر، فقد روي أن ابن مسعود اشترى من رجل جارية ودخل يزن له الثمن، فذهب رب الجارية فانتظره حتى يئس من عوده فتصدق بالثمن، وقال: اللهم هذا عن رب الجارية، فإن رضي فالأجر له وإن أبى فالأجر لي وله من حسناتي بقدره.

        وغل رجل من الغنيمة، ثم تاب، فجاء بما غله إلى أمير الجيش، فأبى أن يقبله منه، وقال: كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا، فأتى حجاج بن الشاعر، فقال: يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم، فادفع خمسه إلى صاحب الخمس، وتصدق بالباقي عنهم، فإن الله يوصل ذلك إليهم، أو كما قال، ففعل، فلما أخبر معاوية قال: لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إلي من نصف ملكي".

        3 - القياس على اللقطة إذا لم يجد ربها بعد تعريفها ولم يرد أن يتملكها تصدق بها عنه، فإن ظهر مالكها خيره بين الأجر والضمان.

        قالوا: ولأن المجهول في الشرع كالمعدوم.

        وعند الشافعية: يسلمه إلى الحاكم لينفقه في مصالح المسلمين العامة.

        وحجتهم: بأن ولي الأمر ونوابه أعلم بأوجه المصالح، فكانوا أولى بالتصرف.

        والأقرب: هو القول الأول; لقوة دليله.

        وقد حكى ابن عبد البر وابن المنذر: الإجماع على أن الغال يجب عليه أن يرد ما غل إلى صاحب المقاسم ما وجد إلى ذلك سبيلا، والدليل على ذلك: [ ص: 255 ] 1 - قول الله عز وجل: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .

        (112 ) 2 - ولما رواه البخاري من طريق مالك، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها; فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه" .

        قال ابن القيم: "من قبض ما ليس له قبضه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه، ولا استوفى عوضه رده عليه، فإن تعذر رده عليه، قضى به دينا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة، كان له، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض، استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم".

        وهل له الأكل منه إذا تاب و كان فقيرا؟ المنصوص عليه عند الحنابلة:

        أنه لا يجوز له الأكل منه، ويجب عليه أن يتصدق به.

        واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - أن للغاصب ونحوه الأكل من المال المغصوب ونحوه إذا تاب، وكان فقيرا إن لم يعرف صاحبه.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية