الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الشرط الثاني: اتصال القبول بالإيجاب:

        هل يشترط اتصال القبول بالإيجاب، أو يصح تراخي القبول عن الإيجاب؟.

        اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في هذه المسألة، ولهم فيها قولان:

        القول الأول: أنه يشترط اتصال القبول بالإيجاب، لكن لا يلزم من اشتراط اتصال القبول بالإيجاب الفورية في إصداره بعد الإيجاب، بل يجوز تراخي القبول عن الإيجاب ما دام العاقدان في مجلس العقد، ولم ينشغلا بما يقطعه عرفا.

        وهذا مذهب الحنفية، وبه قال المالكية، وهو مذهب الحنابلة.

        وعند شيخ الإسلام رحمة الله: المرجع في ذلك إلى العرف، فالهبة تنعقد بما دل عليه العرف من اتصال القبول، أو تراخيه.

        [ ص: 89 ] قال شيخ الإسلام: "وكل ما عده الناس بيعا، أو هبة من متعاقب أو متراخ من قول أو فعل انعقد به البيع والهبة".

        القول الثاني: يلزم من اشتراط اتصال القبول بالإيجاب الفورية في إصداره بعد الإيجاب، فلا يتحقق شرط الاتصال إذا تراخى القبول عن الإيجاب.

        وهذا مذهب الشافعية، إلا أنهم لم يعدوا الفصل اليسير مضرة بالفورية إذا لم يتخلل الإيجاب والقبول كلام أجنبي، أما إذا تخللهما كلام أجنبي - ولو كلمة واحدة - بطل العقد.

        وليس من الكلام الأجنبي - عند الشافعية - ما كان من مقتضيات العقد أو من مصالحه ومستحباته، فلو قال المشتري بعد تقدم الإيجاب: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قبلت، صح.

        القول الثالث: أنه لا يشترط اتصال القبول بالإيجاب. وهو قول عند المالكية.

        الأدلة: أدلة القول الأول: (اشتراط اتصال القبول بالإيجاب ) استدل القائلون باشتراط اتصال القبول بالإيجاب بالأدلة الآتية:

        أولا: الدليل على اشتراط اتصال القبول بالإيجاب:

        1 - أن القبول لا يكون جزءا من العقد إلا إذا اتصل بالإيجاب، أما إذا [ ص: 90 ] تراخى عنه حتى انقضى المجلس فإن الصيغة لا تصح، ومن ثم فالعقد لا يتم لتباعد القبول عن الإيجاب.

        2 - القياس على الاستثناء، فكما أن الاستثناء لا يصح ولا يترتب عليه حكم إلا إذا اتصل المستثنى بالمستثنى منه، فكذلك حال القبول مع الإيجاب لا يفهم له معنى، ولا يترتب عليه حكم إلا باتصال أحدهما بالآخر في مجلس العقد.

        3 - أن الشرع يشترط الرضا لصحة العقود، كما سيأتي في شروط صحة الهبة، شرط الرضا، وإذا لم يتصل القبول بالإيجاب لم يتيقن من تحقق الرضا; إذ يحتمل أن الموجب أعرض عن إيجابه بعد انفضاض المجلس حين رأى عدم صدور القبول.

        ثانيا: دليلهم على جواز تراخي القبول عن الإيجاب ما دام العاقدان في مجلس العقد ولم ينشغلا بما يقطعه عرفا بالأدلة الآتية:

        1 - أن حالة المجلس كحالة العقد، بدليل أنه يكتفى بالقبض فيه لما يعتبر قبضه.

        2 - أن للمجلس أثر في جمع المتفرقات، فاعتبرت ساعاته كساعة واحدة.

        3 - أن في القول باشتراط الفور حرجا بينا; لأن القابل لا يحتاج إلى التروي والتأمل والتفكر، والقول بجواز التراخي يدفع هذا الحرج.

        [ ص: 91 ] ثالثا: استدل شيخ الإسلام رحمه الله على أن الأمر معلق بالعرف: بما تقدم من دليله في الشرط الأول.

        أدلة القول الثاني: (اشتراط الفورية مطلقة ) :

        استدل القائلون باشتراط الفورية في إصدار القبول بعد الإيجاب بالأدلة الآتية:

        1 - أن في عدم فورية القبول دليلا على إعراض القابل عن الإيجاب، والإعراض عن الإيجاب مبطل له، فإذا أتى القبول بعد ذلك متراخيا كان قبولا بلا إيجاب، فلا يكون له أثر.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم بأن تراخي القبول عن الإيجاب في مجلس العقد يدل على إعراض القابل; لأن الشرع لم ينص على ذلك، فوجب إرجاع هذا وأمثاله إلى أعراف الناس.

        2 - أن الأصل في العقود يقتضي اتصال القبول فورا بالإيجاب ليتم العقد، وتراخي القبول عن الإيجاب يعد خروجا عن هذا الأصل، وإنما أجيز الفصل اليسير للضرورة، فإذا زيد على قدر الضرورة بطل العقد.

        ونوقش هذا الاستدلال: بما ورد في مناقشة الدليل الأول من أنه لم يرد في الشرع اشتراط الفورية، وتحديد وقت اتصال القبول بالإيجاب في مجلس العقد، وإذا كان الأمر كذلك فالمرجع هو العرف.

        3 - قياس الإيجاب والقبول على الصلاة، فكما أن الصلاة تبطل إذا تخللها كلام أجنبي، فكذلك الإيجاب والقبول يبطلان إذا فصل بينهما كلام أجنبي.

        [ ص: 92 ] ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس في غاية البعد، فالصلاة عبادة محضة، وقد نص الشارع على عدم جواز التلفظ فيها بكلام أجنبي، أما الإيجاب والقبول فليسا من العبادات، ولم يرد في الشرع تحريم التلفظ بالكلام الأجنبي بينهما.

        أدلة القول الثالث: (عدم اشتراط الفورية مطلقا ) :

        استدل لهذا القول بما يلي:

        (35 ) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق أبي حازم يقول: سمعت سهل بن سعد رضي الله عنه، وفيه: فقام رجل فقال: يا رسول الله، أنكحنيها، قال: "هل عندك من شيء؟" قال: لا، قال: "اذهب فاطلب ولو خاتما من حديد" فذهب وطلب، ثم جاء فقال: ما وجدت شيئا، ولا خاتما من حديد، قال: "هل معك من القرآن شيء؟" قال: معي سورة كذا وسورة كذا، قال: "اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن".

        وجه الاستدلال من الحديث: طول الفصل بين القبول والإيجاب، حيث إن الرجل فارق المجلس لالتماس ما يصدقها إياه.

        وفي هذا دلالة على عدم اشتراط اتصال القبول بالإيجاب في مجلس العقد.

        [ ص: 93 ] ونوقش وجه الاستدلال من وجهين:

        الوجه الأول: أن في هذا دليلا على أن المعتبر في انعقاد العقود العرف.

        الوجه الثاني: بساط القصة أغنى عن الاتصال بين القبول والإيجاب.

        قال ابن حجر رحمه الله: "وكذا كل راغب في التزويج إذا استوجب فأجيب بشيء معين وسكت كفى إذا ظهر قرينة القبول".

        2 - القياس على بيع المحجور عليه والفضولي، فوصي المحجور عليه له الإجازة وإن طال الأمد، مع أنه لم يحصل غير الإيجاب من المحجور عليه والقبول من المبتاع، وإيجاب المحجور عليه كالعدم.

        وكذلك بيع الفضولي يقف القبول على رضا مالك السلعة.

        فإذا صح العقد في هاتين الصورتين مع عدم اتصال القبول بالإيجاب، فما المانع من صحة غيرها؟!.

        ونوقش: بأنه لا دليل في مسألة المحجور عليه، والفضولي على عدم اشتراط اتصال القبول بالإيجاب; لأنه قد حصل فيهما الإيجاب والقبول.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه شيخ الإسلام رحمه الله، وأن مرجع ذلك إلى العرف، فإذا صدر القبول بعد الإيجاب في مجلس العقد صدورا قد تعارف الناس على تمام العقد به كفى.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية