الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثالث: التعديل المشروع في الهبة بين الأولاد

        اتفق العلماء رحمهم الله - كما سبق - على مشروعية التعديل بين الأولاد، لكن اختلفوا في كيفية هذا التعديل على قولين:

        القول الأول: أن كيفية التعديل المشروع أن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين.

        [ ص: 488 ] وبه قال محمد بن الحسن، وبعض المالكية، وقول للشافعية، ومذهب الحنابلة.

        وهو قول شريح، وعطاء، وإسحاق، وهو اختيار ابن تيمية.

        القول الثاني: أن كيفية التعديل المشروع أن يعطى الذكر كالأنثى.

        وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والظاهرية، وهو قول ابن المبارك، والثوري.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (للذكر مثل حظ الأنثيين ) :

        1 - قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وجه الدلالة: أن الله تعالى قسم بينهم، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وأولى ما اقتدي به قسمة الله.

        [ ص: 489 ] ونوقش: بأن هذا ليس من المواريث في شيء، ولكل نص حكمه، فقسمة الميراث مختصة بما بعد الموت، والكلام في عطية الحياة فافترقا.

        2 - ولأن العطية في الحياة أحد حالي العطية، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، كحالة الموت، يعني: الميراث، يحققه أن العطية استعجال لما يكون بعد الموت فينبغي أن تكون على حسبه، كما أن معجل الزكاة قبل وجوبها يؤديها على صفة أدائها بعد وجوبها، وكذلك الكفارات المعجلة.

        3 - ولأن الذكر أحوج من الأنثى من قبل أنهما إذا تزوجا جميعا فالصداق والنفقة، ونفقة الأولاد على الذكر، والأنثى لها ذلك، فكان أولى بالتفضيل; لزيادة حاجته، وقد قسم الله تعالى الميراث، ففضل الذكر مقرونا بهذا المعنى فعلل به، ويتعدى ذلك إلى العطية في الحياة".

        ونوقش: بأن الذكر أقدر على الكسب من الأنثى وهي عاجزة عنه، فكانت أحق بالتفضيل، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بقوله: "فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء".

        4 - أنه حظها من ذلك المال لو أبقاه الواهب في يده حتى مات.

        أدلة الرأي الثاني: (الذكر كالأنثى سواء ) :

        1 - حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد رضي الله عنه: "سو بينهم"، وعلل ذلك بقوله: "أيسرك أن يستووا في برك؟" قال: نعم، [ ص: 490 ] قال: "فسو بينهم"، والبنت كالابن في استحقاق برها، وكذلك في عطيتها.

        وفي رواية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألك ولد غيره"؟ فقال: نعم. فقال: "ألا سويت بينهم؟"، ولم يقل: ألك ولد غيره ذكر أو أنثى، وذلك لا يكون إلا وحكم الأنثى فيه كحكم الذكر، ولولا ذلك لما ذكر التسوية إلا بعد علمه أنهم كلهم ذكور، فلما أمسك عن البحث عن ذلك ثبت استواء حكمهم في ذلك عنده ) .

        ونوقش من ثلاثة أوجه:

        الوجه الأول: أن حديث بشير رضي الله عنه قضية في عين، وحكاية حال لا عموم لها، وإنما يثبت حكمها فيما يماثلها، ولا نعلم حال أولاد بشير، هل كان فيهم أنثى أو لا؟ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أنه ليس له إلا ولد ذكر.

        وأجيب عنه:

        الأمر الأول: أن الأصل العموم، وعدم الخصوص.

        الأمر الثاني: أن هذا مما يضعف احتجاجكم بمثله على وجوب التسوية بين الأولاد، وإبطال الهبة بالتفضيل بينهم.

        الوجه الثاني: أن تحمل التسوية التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم على القسمة على كتاب الله تعالى.

        [ ص: 491 ] وأجيب: بأن هذا بعيد غاية البعد.

        ونوقش: بعدم التسليم، بل هذا هو المتبادر المفهوم لدى الصحابة رضي الله عنهم.

        الوجه الثالث: أنه يحتمل إرادة التسوية في أصل العطاء لا في صفته، فإن القسمة لا تقتضي التسوية من كل وجه.

        يدل على ذلك ما ورد عن عطاء قال: "ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله"، وهذا خبر عن جميعهم.

        الوجه الرابع: علم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا أنثى له.

        وأجيب: بأنه يرده قوله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك أعطيت مثله".

        (213 ) 2 - ما رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثرا لآثرت النساء على الرجال".

        [ ص: 492 ] ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن الحديث مرسل; والطريق المرفوعة ضعيفة.

        الوجه الثاني: لو سلم بصحته، فإنه يحمل على التسوية بما جاء في كتاب الله، أو على التسوية في أصل العطاء لا في صفته.

        يدل عليه قول عطاء السابق في عمل الصحابة.

        وأجيب عن هذه المناقشة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قابل التسوية بالتفضيل، فيراد بالتسوية ما لا يكون فيه تفضيل أصلا، وقول عطاء محمول على القسمة في المرض، والكلام في هبة الصحيح.

        والمرسل حجة عندنا، ثم له طرق، والمرسل إذا تعدد مخرجه كان حجة عند الجميع.

        (214 ) 3 - ما رواه الطحاوي: حدثنا أحمد بن داود، قال: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: حدثنا عبد الله بن معاذ، عن معمر، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، ثم جاءت بنت له فأجلسها إلى جنبه، فقال رسول الله: "فهلا عدلت بينهما".

        [ ص: 493 ] قال الطحاوي: "أفلا يرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أراد منه التعديل بين الابنة والابن، وأن لا يفضل أحدهما على الآخر، فذلك دليل على ما ذكرنا في العطية أيضا".

        4 - ولأنه لما استحب أن يساوي بينهم في أصل العطية كذلك في مقدارها.

        5 - ولأنها عطية في الحياة، فاستوى فيها الذكر والأنثى، كالنفقة والكسوة.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - أنه يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين; لقوة ما استدلوا به، ولأن ذلك هو حظ الأنثى لو أبقاه الواهب في يده، ولأنه فهم السلف رحمهم الله تعالى.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية