الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 233 ] فصل

                                                                                                                                                                        في مسائل من الدور الحكمي

                                                                                                                                                                        عادة الأصحاب ذكر هذه المسائل هنا . والمسائل التي يقع فيها الدور نوعان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : ينشأ الدور فيه من محض حكم الشرع ، كما ذكرنا فيما إذا اشترت زوجها قبل الدخول بالصداق الذي ضمنه السيد ، فإنه لو صح البيع ثبت الملك . وإذا ثبت الملك ، انفسخ النكاح ، وإذا انفسخ ، سقط المهر المجعول ثمنا ، وإذا سقط ، فسد البيع ، فهذه الأحكام المرتبة ولدت الدور .

                                                                                                                                                                        والثاني : ينشأ الدور فيه من لفظة يذكرها الشخص ، كما في مسألة دور الطلاق ، وعندها نذكر إن شاء الله - تعالى - أكثر مسائل الدور اللفظي . والذي نذكره هنا ، خمس مسائل من الدور الحكمي .

                                                                                                                                                                        إحداها : أعتق أمته في مرض موته ونكحها على مهر سماه ، نظر ، إن لم يخرج من الثلث ، فحكمه ما ذكرناه في المسائل الدورية في كتاب الوصايا وإن خرجت ، نظر إن كانت قدر الثلث بلا مزيد ، بأن كانت قيمتها مائة [ و ] له مائتان سواها ، فالنكاح صحيح . ثم إن لم يجر دخول ، فلا مهر لها لأنه لو ثبت المهر لكان دينا على الميت ، وحينئذ لا تخرج من الثلث ، ويرقه بعضها ، وحينئذ يبطل النكاح والمهر ، فإثباته يؤدي إلى إسقاط ، فيسقط . وإن جرى [ ص: 234 ] دخول ، فقد ذكرنا حكمه في ( كتاب الوصايا ) وسواء دخل أم لا ، فلا ترث بالزوجية ; لأن عتقها وصية ، والوصية و الإرث لا يجتمعان . فلو أثبتنا الإرث ، لزم إبطال الوصية وهي العتق ، وإذا بطل بطلت الزوجية وبطل الإرث . وإن كانت الأمة دون الثلث ، فقد تمكنها المطالبة بالمهر لخروجها من الثلث بعد الدين ، وهذا كله تفريع على أنه يجوز للمعتق في مرض الموت نكاحها ، وهو الصحيح . وحكى الحناطي والشيخ أبو علي وجها أنه لا يجوز وهو كما حكيناه من قبل عن ابن الحداد ، أن المعتقة في مرض الموت نكاحها لا يجوز لقرينها لاحتمال أن لا يخرج من الثلث عند الموت .

                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : زوج أمته عبد غيره ، وقبض الصداق وأتلفه بإنفاق وغيره ، ثم أعتقها في مرض موته ، أو أوصى بعتقها ، فأعتقت وهي ثلث ماله ، وكان ذلك قبل الدخول ، فليس لها خيار العتق ; لأنها لو فسخت النكاح لوجب رد المهر من تركة السيد ، وحينئذ لا يخرج كلها من الثلث . وإذا بقي الرق في البعض ، لم يثبت الخيار ، فإثبات الخيار يؤدي إلى إسقاطه ، وكذا الحكم لو لم يتلف الصداق وكانت الأمة ثلث ماله مع الصداق . ولو خرجت من الثلث دون الصداق ، أو اتفق ذلك بعد الدخول ، فلها الخيار . ولو كانت المسألة بحالها ، إلا أن الإعتاق وجد من وارثه بعد موت السيد ، نظر ، إن كان الوارث معسرا ، فلا خيار لها ; لأنها لو فسخت لزم رد المهر من تركة الميت . وإذا كان على الميت دين ، لم ننفذ إعتاق الوارث المعسر على الصحيح . وإذا لم ينفذ الإعتاق ، لم يثبت الخيار . وإن كان الوارث موسرا ، فقد ذكرنا في ( كتاب الرهن ) خلافا في أن الوارث الموسر إذا أعتق عبد التركة وعلى الميت دين ، هل ينفذ العتق في الحال ، أم يتوقف نفوذه على وصول دين الغرماء ؟ فإن قلنا : ينفذ في الحال وهو الأصح ، عتقت [ ص: 235 ] ولها الخيار . فإن فسخت ، غرم الوارث لسيد العبد أقل الأمرين من الصداق وقيمة الأمة ، كما لو مات وعليه دين وله عبد فأعتقه وارثه الموسر ، يلزمه أقل الأمرين من الدين وقيمة العبد . ولو كان على الميت دين ، فالقيمة التي يغرمها الوارث يتضارب فيها سيد العبد والغرماء .

                                                                                                                                                                        [ المسألة ] الثالثة : مات عن أخ وعبدين ، والأخ هو الوارث في الظاهر ، فأعتق الأخ العبدين ، ثم ادعت امرأة أنها زوجة الميت ، وادعى ابنها أنه ابن الميت ، فشهد المعتقان لهما ، ثبتت الزوجية والنسب ، ولا يرث الابن ، إذ لو ورث لحجب الأخ وبطل إعتاقه وبطلت شهادتهما ، وحينئذ تبطل الزوجية والنسب . وفيه وجه : أنه لا يثبت أيضا ، والصحيح الأول .

                                                                                                                                                                        ولو شهدا بنسب بنت ، نظر ، إن كان الأخ معسرا يوم الإعتاق ، لم ترث البنت ، إذ لو ورثت لرق نصيبها وبطلت الشهادة . وإن كان موسرا ، فإن عجلنا السراية بنفس الإعتاق ، ورثت لكمال العتق يوم الشهادة . وإن قلنا : لا تحصل السراية إلا بأداء القيمة ، لم ترث لأن توريثها يمنع كمال العتق يوم الشهادة . وحكم الزوجة في الإرث حكم البنت ، فينظر إلى إعسار الأخ ويساره كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                        [ المسألة ] الرابعة : أوصى لرجل بابنه ، ومات الموصى له بعد موت الموصي وقبل القبول ، ووارثه أخوه ، وقبل الوصية ، وقد سبق بيان هذه المسألة في آخر الباب الأول من " كتاب الوصايا " .

                                                                                                                                                                        [ المسألة ] الخامسة : اشترى في مرض الموت من يعتق عليه كابنه ، عتق من الثلث ولا يرث ، إذ لو ورث لكان العتق أو النسب إليه بالشراء وصية للوارث ، فيبطل . وإذا امتنع العتق ، امتنع الإرث . وحكى الأستاذ أبو منصور وجها [ ص: 236 ] أنه يرث ، ووجها أنه لا يصح الشراء ، والصحيح الأول . ولو ملك المريض من يعتق عليه بغير عوض ، كهبة وارث ، فهل يرث ؟ وجهان بناء على أنه يعتق من الثلث أو من رأس المال ، وقد ذكرنا ذلك في " كتاب الوصايا " وبالتوريث قال ابن سريج ، واختاره الشيخ أبو حامد .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ذكر الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني - رحمه الله - في مختصر جمعه في المسائل الدورية ، أنه لو شهد اثنان بعتق عبد ، وحكم الحاكم بشهادتهما ، ثم جاء العبد مع آخر فشهدا بجرح الشاهدين ، لم يقبل . وأنه لو أعتق عبدين في مرض موته هما ثلث ماله ، فشهدا على الميت بوصية أو بإعتاق وعليه دين أو زكاة ، لم يقبل ولو شهدا أنه نكح امرأة على مهر ، كذا حكى عن بعض الأصحاب أنه لا تقبل شهادتهما ، قال : ويحتمل أن يقبل في النكاح ولا مهر ، وأنه لو أعتق عبدين له فشهدا أنه كان محجورا عليه لسفه ، لم تقبل شهادتهما . وأنه لو ادعى أنه ابن فلان وقد مات ، ووارثه في الظاهر أخوه ، فأنكر ونكل ، فحلف المدعي ، ثبت النسب ولا يرث ، وهذا تفريع على أن اليمين المردودة مع النكول كالإقرار . أما إذا قلنا : إنها كالبينة ، فيرث . وإنه لو ورث عبدين يعتقان عليه ثم مات وورثاه ، أقر بدين على الميت الأول يستغرق تركته ، لم يثبت الدين بإقرارهما .

                                                                                                                                                                        وأنه لو أعتق أمة في مرض موته ، وهي ثلث ماله ، فادعت أنه وطئها بشبهة ، أو أنه استأجرها وعليه أجرتها ، لم تسمع دعواها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 237 ] وأنه لو ورث من زوجته عبدين وأعتقهما ، ثم شهدا بالفرقة قبل الموت بردة أو طلاق ، لم تقبل شهادتهما .

                                                                                                                                                                        وأنه لو كان في يد عبده مال ، فأخذه واشترى به عبدين وأعتقهما فشهدا عليه بأنه أعتقه قبل ذلك ، لم يقبل .

                                                                                                                                                                        وأنه لو مات ووارثه في الظاهر أخوه ، فأعتق عبدا من التركة ، وولي العتيق القضاء ، فجاء مجهول وادعى أنه ابن الميت ، وأقام شاهدين ، لم يقبل هذا الحاكم شهادتهما ، ولم يحكم بقولهما ، هكذا ذكروه ، وكان يجوز أن يقال : يحكم بشهادتهما ويثبت النسب دون الإرث . كما لو أعتق الأخ في هذه الصورة عبدين وشهدا ببنوة المدعي ، وحينئذ فلا يؤثر نسبه في العتق والقضاء .

                                                                                                                                                                        وأنه لو ورث عبدا من مورثه المقتول وأعتقه وولي العتيق القضاء ، فجاء إليه الوارث وادعى على قاتله القصاص فقال [ قتلته ] وهو مرتد وأقام عليه شاهدين ، لم يحكم هذا الحاكم بشهادتهما . ومن هذا القبيل ، لو أعتق عبدين ، فجاء رجل وادعى أنه كان غصب العبدين وشهدا له ، لم تقبل شهادتهما . وفي التهذيب أنه لو ملك رجل أخاه ثم أقر في مرض موته أنه أعتقه في صحته ، كان العتق نافذا وهل يرثه ؟ إن صححنا الإقرار للوارث ، ورث ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال الغزالي في " مجموعه " " غاية الغور في دراية الدور " : المسائل الدائرة [ ص: 238 ] لا بد فيها من قطع الدور . وفي قطعه ثلاثة مسالك : تارة يقطع من أوله ، وتارة من وسطه ، وتارة من آخره ، وذلك بحسب قوة بعض الأحكام وبعده عن الدفع ، وضعف بعضها وقربه للدفع .

                                                                                                                                                                        مثال القطع من أوله : بيع العبد لزوجته الحرة قبل الدخول بصداقها الثابت في ذمة السيد ، فإنا حكمنا بفساد البيع ، وقطعنا الدور من أصله ، لم نقل : يصح البيع ، ولا ينفسخ النكاح ، أو ينفسخ ولا يسقط الصداق ، وسببه أن البيع اختياري ، وحصول الانفساخ بالملك قهري ، وكذا سقوط الصداق بالانفساخ ، وما يختاره الإنسان من التصرفات ، يصح تارة ويفسد أخرى ، وما يثبت قهرا يبعد دفعه بعد حصول سببه ، فكان البيع أولى بالدفع من غيره .

                                                                                                                                                                        ومثال القطع من الوسط : المسألة الثانية من المسائل السابقة ، فإنا لم نقطع الدور من أوله بأن نقول : لا يحصل العتق ولا من آخره ، بأن نقول : لا يزيد المهر حتى لا تضيق التركة ، ولكن قطعناه من وسطه فقلنا : لا يثبت الخيار ، وسببه أن سقوط المهر عند الفسخ قهري يبعد دفعه ، والخيار أولى بالدفع من العتق ; لأن العتق أقوى . ألا ترى أنه لا يسقط بعد ثبوته ، والخيار يسقط بعد ثبوته بالإسقاط وبالتقصير .

                                                                                                                                                                        ومثال القطع من الآخر : المسألة الأولى من الخمس ، فإنا لم نقطع الدور من الأول بأن نقول : لا يحصل العتق ، ولا من الوسط بأن نقول : لا يصح النكاح ، لكن قطعناه من الآخر فقلنا : ليس لها المهر . ويمكن أن يقال : سببه أن العتق له قوة السرعة والسراية ، فلا يدفع ، والنكاح أقوى من المهر المسمى فيه ، فإن ثبوت النكاح يستغني عن المهر بدليل المفوضة ، والمسمى مهرا لا يثبت من غير [ ص: 239 ] ثبوت النكاح . وعد من هذا القسم الثالث ، أما إذا قال لزوجته : إن انفسخ النكاح بيني وبينك فأنت طالق قبله ثلاثا ، ثم اشتراها ، أو جرى رضاع أو ردة ، فلا يقطع الدور من أوله بأن نقول :

                                                                                                                                                                        [ لا ينفسخ النكاح ، لكن يقطع من آخره ، بأن نقول ] ينفسخ ولا يقع الطلاق ، وربما نعود إلى هذه المسألة في مسائل الطلاق والدور فيها لفظي .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية