الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        قال : ( والإقرار ) ( أن يقر البالغ العاقل على نفسه بالزنا أربع مرات في أربعة [ ص: 99 ] مجالس عن مجالس المقر كلما أقر رده القاضي ) فاشتراط البلوغ والعقل ، لأن قول الصبي والمجنون غير معتبر ، أو هو غير موجب للحد ، واشتراط الأربع مذهبنا ، وعند الشافعي رحمه الله : يكتفى بالإقرار مرة واحدة اعتبارا بسائر الحقوق وهذا لأنه مظهر ، وتكرار الإقرار لا يفيد زيادة الظهور بخلاف زيادة العدد في الشهادة .

                                                                                                        [ ص: 100 - 101 ] ولنا حديث ماعز رضي الله عنه فإنه عليه الصلاة والسلام أخر الإقامة إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات في أربعة مجالس ، فلو ظهر بما دونها لما أخرها لثبوت الوجوب ، ولأن الشهادة اختصت فيه بزيادة العدد فكذا الإقرار إعظاما لأمر الزنا وتحقيقا لمعنى الستر ، ولا بد من اختلاف المجالس لما روينا ، ولأن لاتحاد [ ص: 102 ] المجلس أثرا في جمع المتفرقات ، فعنده يتحقق شبهة الاتحاد في الإقرار ، والإقرار قائم بالمقر فيعتبر اختلاف مجلسه دون مجلس القاضي .

                                                                                                        [ ص: 103 - 106 ] والاختلاف بأن يرده القاضي كلما أقر فيذهب حيث لا يراه ثم يجيء فيقر هو المروي عن أبي حنيفة رحمه الله ، لأنه عليه الصلاة والسلام طرد ماعزا في كل مرة حتى توارى بحيطان المدينة .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        الحديث الخامس :

                                                                                                        في حديث ماعز أنه عليه السلام أخر إقامة الحد ، إلى أن تم الإقرار منه أربع مرات قلت : أخرجاه في " الصحيحين " عن أبي هريرة ، قال : { أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه ، فقال : يا رسول الله ، إني زنيت ، فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه ، فقال : يا رسول الله إني زنيت ، فأعرض عنه ، حتى ثنى ذلك أربع مرات ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهبوا به فارجموه ، فرجمناه بالمصلى ، فلما أذلقته الحجارة هرب ، فأدركناه بالحرة ، فرجمناه }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } :

                                                                                                        أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة ، قال : رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل قصير أعضل ليس عليه رداء ، فشهد على نفسه أربع [ ص: 102 ] مرات أنه زنى ، فقال عليه السلام : فلعلك كذا ؟ قال : لا والله ، إنه قد زنى ، قال : فرجمه ، ثم خطب ، فقال : ألا كلما نفرنا في سبيل الله تخلف أحدهم ، له نبيب كنبيب التيس ، يمنح إحداهن الكثبة ، أما والله إن يمكني من أحدهم لأنكلنه انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } :

                                                                                                        أخرجه مسلم أيضا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : { لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك ، فقال : أحق ما بلغني عنك ؟ قال : وما بلغك عني ؟ قال : بلغني أنك فجرت بأمة آل فلان ؟ قال : نعم ، فرده حتى شهد أربع مرات ، ثم أمر برجمه }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } :

                                                                                                        أخرجه مسلم أيضا عن بريدة قال : { كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء ماعز بن مالك ، فقال : يا رسول الله إني زنيت ، وأنا أريد أن تطهرني ، فقال عليه السلام : ارجع ، فلما كان من الغد أتاه أيضا فاعترف عنده بالزنا ، فقال له : ارجع ، ثم عاد الثالثة ، فاعترف عنده بالزنا ، ثم رجع الرابعة فاعترف ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فحفر له حفرة فجعل فيها إلى صدره ، ثم أمر الناس فرجموه }.

                                                                                                        قال بريدة : كنا نتحدث أصحاب نبي الله أن ماعزا لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه ، وإنما رجمه عند الرابعة انتهى .

                                                                                                        وعند أبي داود ، والنسائي فيه : قال : كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية ، وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما ، وإنما رجمهما بعد الرابعة انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } :

                                                                                                        أخرجه البخاري ، ومسلم عن جابر بن عبد الله { أن رجلا من أسلم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بالزنا ، فأعرض عنه ، ثم اعترف ، فأعرض عنه ، حتى شهد على نفسه أربع شهادات ، فقال له عليه السلام : أبك جنون ؟ قال : لا ، قال : هل أحصنت ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم } ، زاد البخاري : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيرا ، وصلى عليه انتهى . أخرجاه عن أبي سلمة عن جابر ، وسيأتي في " حديث الصلاة على الغامدية " .

                                                                                                        [ ص: 103 ] حديث آخر } :

                                                                                                        أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وأحمد في " مسنده " عن هشام بن سعد ، أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه ، قال : { كان ماعز بن مالك في حجر أبي ، فأصاب جارية من الحي ، فقال له أبي : ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت ، لعله يستغفر لك ، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج ، فأتاه فقال : يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله ، فأعرض عنه ، إلى أن أتاه الرابعة ، فقال له : إنك قد قلتها أربع مرات ، فبمن ؟ قال : بفلانة ، قال : هل ضاجعتها ، قال : نعم ، قال : هل باشرتها ؟ قال : نعم ، قال : هل جامعتها ؟ قال نعم ، فأمر به فرجم ، فوجد مس الحجارة ، فخرج يشتد ، فلقيه عبد الله بن أنيس ، فنزع له بوظيف بعير ، فقتله ، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه }انتهى .

                                                                                                        وزاد فيه أحمد : قال هشام : فحدثني يزيد بن نعيم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين رآه : والله يا هزال لو كنت سترته بثوبك لكان خيرا لك مما صنعت به ، قال في " التنقيح " : إسناده صالح ، وهشام بن سعد روى له مسلم ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه ، ويزيد بن نعيم روى له مسلم أيضا ، وذكره ابن حبان في " الثقات " ، وأبو نعيم ذكره في " الثقات " أيضا ، وهو مختلف في صحبته ، فإن لم تثبت صحبته ، فآخر هذا الحديث مرسل انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } :

                                                                                                        رواه أحمد في " مسنده " حدثنا يزيد بن هارون ثنا الحجاج بن أرطاة عن عبد الملك بن مغيرة عن عبد الله بن المقدام عن ابن شداد عن { أبي ذر ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل ، فقال : إنه زنى ، فأعرض عنه ، ثم ثنى ، ثم ثلث ، ثم ربع ، فأمرنا فحفرنا له ، فرجم }انتهى .

                                                                                                        قال في " التنقيح " : وحجاج فيه كلام ، وعبد الملك هو الطائفي ، وثقه ابن حبان ، وروى له الترمذي حديثا ، وعبد الله بن المقدام بن المورد طائفي أيضا ، لم يذكره ابن أبي حاتم بجرح انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } :

                                                                                                        رواه أحمد ، وإسحاق بن راهويه في " مسنديهما " ، وابن أبي شيبة في " مصنفه " حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عامر عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بكر ، قال : { أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف ، وأنا عنده مرة ، فرده ، ثم جاء [ ص: 104 ] فاعترف عنده الثانية ، فرده ، ثم جاء ، فاعترف عنده الثالثة ، فرده ، قال : فقلت له : إن اعترفت الرابعة رجمك ، قال : فاعترف الرابعة فحبسه ، ثم سأل عنه ، فقالوا : لا نعلم إلا خيرا ، فأمر به فرجم }انتهى .

                                                                                                        أحاديث الخصوم :

                                                                                                        فيه حديث العسيف ، أخرجه البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا : إن { رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ، فقال الخصم الآخر ، وهو أفقه منه : نعم اقض بيننا بكتاب الله ، وأذن لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل قال : إن ابني هذا كان عسيفا على هذا ، فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن على ابني جلد مائة ، وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ، قال : فغدا عليها ، فاعترفت ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت }انتهى .

                                                                                                        وفي لفظ لهما : وجلد ابنه مائة ، وغربه عاما ، قالوا : فعلق رجمها باعترافها ، ولم يشترط الأربع .

                                                                                                        { حديث آخر } :

                                                                                                        وهو حديث الغامدية ، أخرجه مسلم عن بريدة في حديث ماعز ، قال : { أتت امرأة من غامد من الأزد ، فقالت : يا رسول الله طهرني ، قال : ويحك ارجعي ، فاستغفري الله ، وتوبي ، قالت : أتريد أن تردني ، كما رددت ماعزا ؟ قال : وما ذاك ، قالت : إني حبلى من الزنا ، فقال لها : حتى تضعي ما في بطنك ، قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد وضعت الغامدية ، قال : إذا لا نرجمها ، وندع ولدها صغيرا ، ليس له من يرضعه ، فقام رجل من الأنصار ، فقال : إلي رضاعه يا نبي الله ، فرجمها }انتهى .

                                                                                                        قالوا : وليس فيه إقرارها أربع مرات ، قالوا : وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا أربع مرات ، لأنه عليه السلام ظن أن في عقله شيئا ، لا لكونه [ ص: 105 ] شرطا في وجوب الحد ، قالوا : وقد جاء في " صحيح مسلم " عن جابر بن سمرة ، قال : { أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير أشعث ذي عضلات ، عليه إزار ، وقد زنى ، فرده مرتين ، ثم أمر به فرجم } ، وفيه أيضا عن أبي سعيد الخدري أنه اعترف بالزنا ثلاث مرات ، قالوا : وهذا يضعف القول باشتراط الأربع ، والجواب : أما حديث العسيف ، فمعناه : واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت ، الاعتراف المعهود بالتردد أربع مرات وأما حديث الغامدية : فالراوي قد يختصر الحديث ، ولا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع ، وأيضا فقد ورد في بعض طرقه أنه ردها أربع مرات ، أخرجه البزار في " مسنده " عن زكريا بن سليم ثنا شيخ من قريش عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ، فذكره ، وفيه أنها أقرت بالزنا أربع مرات ، وهو يردها ، ثم قال لها : اذهبي حتى تلدي ، الحديث ، ويراجع ، وأما قولهم : إنه عليه السلام رد ماعزا أربع مرات ، لأنه ظن أن بعقله شيئا ، فليس بشيء ، لأنه عليه السلام سأل عن عقله بعد اعترافه الرابعة ، كما تقدم في حديث أبي هريرة وحديث جابر المخرجين في " الصحيحين " ، فلو كان تكرار الأربعة إنما هو لاختبار عقله ، لما كان في السؤال عنه بعد الرابعة فائدة وكيف وقد رده عليه السلام بعد أن أخبر بعقله ، كما أورده مسلم من حديث بريدة ، أن { ماعزا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فرده ، ثم أتاه الثانية من الغد ، فرده ، ثم أرسل إلى قومه ، هل تعلمون بعقله بأسا ؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل ، من صالحينا ، فأتاه الثالثة ، فأرسل إليهم أيضا ، فسأل عنه ، فأخبروه أنه لا بأس به ، ولا بعقله ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ورجمه } ، مختصر .

                                                                                                        فظهر من هذا أن الأربعة معتبرة ، ويؤيد ذلك ما تقدم عند أبي داود في حديث هزال أنه عليه السلام ، قال لماعز : إنك قد قلتها أربع مرات ، وفي لفظ له عن ابن عباس : إنك شهدت على نفسك أربع مرات وفي لفظ لابن أبي شيبة : أليس أنك قد قلتها أربع مرات ؟ فرتب الرجم على الأربع ، وإلا فمن المعلوم أنه قالها أربع مرات ، ويدل عليه ما تقدم في " مسند أحمد " عن أبي بكر أنه قال له بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد اعترافه ثلاث مرات : إن اعترفت الرابعة رجمك ، وهذا أصرح في الدلالة على اشتراط الأربع ، لولا أن في إسناده جابرا الجعفي وأما قولهم : إنه ورد في " الصحيح " أنه رده مرتين ، وثلاث مرات ، فالجواب أنه رده مرتين بعد مرتين ، واختصر الراوي منها مرتين ، يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود ، [ ص: 106 ] والنسائي عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : { أتي النبي صلى الله عليه وسلم بماعز بن مالك فاعترف مرتين ، فقال : اذهبوا به ، ثم قال ردوه ، فاعترف مرتين ، حتى اعترف أربعا ، فقال : اذهبوا به ، فارجموه }انتهى .

                                                                                                        فتبين بهذا أن المرتين المذكورتين في " الصحيح " هما من الأربع ، وكذلك رواية الثلاث ، أي معها رابعة ، وتتفق بذلك الأحاديث ، والله أعلم .

                                                                                                        الحديث السادس : روي أنه عليه السلام طرد ماعزا في كل مرة حتى توارى عليه بحيطان المدينة قلت : غريب بهذا اللفظ ، وبمعناه ما رواه ابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي هريرة ، قال : { جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الأبعد زنى ، فقال له : ويلك ، وما يدريك ما الزنا ؟ فأمر به ، فطرد وأخرج ثم أتاه الثانية ، فقال مثل ذلك ، فأمر به فطرد ، وأخرج ، ثم أتاه الثالثة ، فقال له مثل ذلك ، فأمر به ، فطرد ، وأخرج ، ثم أتاه الرابعة ، فقال مثل ذلك ، قال : أدخلت وأخرجت ؟ قال : نعم ، فأمر [ ص: 107 ] به أن يرجم } ، مختصر .




                                                                                                        الخدمات العلمية