الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        قال رضي الله عنه ( وكذا كنايات العتق ) وذلك مثل قوله : خرجت من ملكي ولا سبيل لي عليك ولا رق لي عليك ، وقد خليت [ ص: 8 ] سبيلك ، لأنه يحتمل نفي السبيل ، والخروج عن الملك وتخلية السبيل بالبيع أو الكتابة كما يحتمل بالعتق فلا بد من النية ، وكذا قوله لأمته : قد أطلقتك لأنه بمنزلة قوله قد خليت سبيلك ، وهو المروي عن أبي يوسف رحمه الله ، خلاف قوله طلقتك على ما نبين من بعد إن شاء الله تعالى .

                                                                                                        ( ولو قال لا سلطان لي عليك ونوى العتق لم يعتق ) لأن السلطان عبارة عن اليد ، وسمي السلطان به لقيام يده ، وقد يبقى الملك دون اليد كما في المكاتب بخلاف قوله : لا سبيل لي عليك ; لأن نفيه مطلقا بانتفاء الملك ; لأن للمولى على المكاتب سبيلا ، فلهذا يحتمل العتق .

                                                                                                        ( ولو قال هذا ابني وثبت على ذلك عتق ) ومعنى المسألة إذا كان يولد مثله لمثله ، فإن كان لا يولد مثله لمثله ذكره بعد هذا ، ثم إن لم يكن للعبد نسب معروف يثبت نسبه منه ; لأن ولاية الدعوة بالملك ثابتة ، والعبد محتاج إلى النسب فيثبت نسبه منه ، وإذا ثبت عتق لأنه يستند النسب إلى وقت العلوق ، وإن كان له نسب معروف لا يثبت نسبه منه للتعذر ، ويعتق إعمالا للفظ في مجازه عند تعذر إعماله بحقيقته ، ووجه المجاز نذكره من بعد إن شاء الله تعالى .

                                                                                                        ( ولو قال هذا مولاي أو يا مولاي عتق ) أما الأول فلأن اسم المولى وإن كان ينتظم الناصر وابن العم ، والموالاة في الدين والأعلى والأسفل في العتاق إلا أنه تعين الأسفل فصار كاسم خاص له ، وهذا لأن المولى لا يستنصر بمملوكه عادة ، وللعبد نسب معروف فانتفى الأول والثاني والثالث نوع مجاز والكلام للحقيقة ، والإضافة إلى العبد تنافي كونه معتقا ، فتعين المولى الأسفل فالتحق بالصريح ، وكذا إذا قال لأمته هذه مولاتي لما بينا ، ولو قال : عنيت به المولى في الدين أو الكذب يصدق فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يصدق في القضاء لمخالفته [ ص: 9 ] الظاهر ، وأما الثاني : فلأنه لما تعين الأسفل مرادا التحق بالصريح وبالنداء باللفظ الصريح يعتق بأن قال يا حر يا عتيق فكذا النداء بهذا اللفظ ، وقال زفر رحمه الله : لا يعتق في الثاني ; لأنه يقصد به الإكرام بمنزلة قوله يا سيدي يا مالكي .

                                                                                                        قلنا الكلام لحقيقته ، وقد أمكن العمل به بخلاف ما ذكره ; لأنه ليس فيه ما يختص بالعتق فكان إكراما محضا .

                                                                                                        ( ولو قال يا ابني أو يا أخي لم يعتق ) ; لأن النداء لإعلام المنادى إلا أنه كان بوصف يمكن إثباته من جهته كان لتحقيق ذلك الوصف في المنادى استحضارا له بالوصف المخصوص كما في قوله يا حر على ما بيناه ، وإذا كان النداء بوصف لا يمكن إثباته من جهته كان للإعلام المجرد دون تحقيق الوصف فيه لتعذره ، والبنوة لا يمكن إثباتها حالة النداء من جهته ، لأنه لو انخلق من ماء غيره لا يكون ابنا له بهذا النداء فكان لمجرد الإعلام ، ويروى عن أبي حنيفة رحمه الله شاذا أنه يعتق فيهما ، والاعتماد على الظاهر .

                                                                                                        ( ولو قال يا ابن لا يعتق ) لأن الأمر كما أخبر فإنه ابن أبيه ( وكذا إذا قال يا بني أو يا بنية ) لأنه تصغير للابن والبنت من غير إضافة والأمر كما أخبر ( وإن قال لغلام لا يولد مثله لمثله : هذا ابني عتق عند أبي حنيفة رحمه الله ) وقالا : لا يعتق وهو قول الشافعي رحمه الله ، لهم إنه كلام محال الحقيقة فيرد ويلغو كقوله : أعتقتك قبل أن أخلق أو قبل أن تخلق ، ولأبي حنيفة رحمه الله أنه كلام محال بحقيقته لكنه صحيح بمجازه ; لأنه إخبار عن حريته من حين ملكه ، وهذا لأن البنوة في المملوك سبب لحريته إما إجماعا أو صلة للقرابة ، وإطلاق السبب وإرادة المسبب مستجاز في اللغة تجوزا ، ولأن الحرية ملازمة للبنوة في المملوك والمشابهة في وصف ملازم من طرق المجاز على ما عرف ، فيحمل عليه تحرزا عن الإلغاء بخلاف ما استشهد به ; لأنه لا وجه له في المجاز ، فتعين الإلغاء وهذا بخلاف ما إذا قال لغيره : قطعت يدك فأخرجهما صحيحتين حيث لم يجعل [ ص: 10 ] مجازا عن الإقرار بالمال والتزامه وإن كان القطع سببا لوجوب المال ; لأن القطع خطأ سبب لوجوب مال مخصوص ، وهو الأرش وهو يخالف مطلق المال في الوصف حتى وجب على العاقلة في سنتين ، ولا يمكن إثباته بدون القطع ، وما أمكن إثباته فالقطع ليس بسبب له أما الحرية فلا تختلف ذاتا وحكما فأمكن جعله مجازا عنه .

                                                                                                        ولو قال : هذا أبي أو أمي ومثله لا يولد لمثلهما ، فهو على الخلاف لما بينا : ولو قال لصبي صغير هذا جدي ، قيل هو على الخلاف ، وقيل لا يعتق بالإجماع ; لأن هذا الكلام لا موجب له في الملك إلا بواسطة ، وهو الأب وهي غير ثابتة في كلامه ، فتعذر أن يجعل مجازا عن الموجب بخلاف الأبوة والبنوة ; لأن لهما موجبا في الملك من غير واسطة .

                                                                                                        ولو قال هذا أخي لا يعتق في ظاهر الرواية ، وعن أبي حنيفة رحمه الله : أنه يعتق ووجه الروايتين ما بيناه .

                                                                                                        ولو قال لعبده : هذا ابنتي فقد قيل على الخلاف ، وقيل هو بالإجماع ; لأن المشار إليه ليس من جنس المسمى ، فتعلق الحكم بالمسمى ، وهو معدوم فلا يعتبر ، وقد حققناه في النكاح ( وإن قال لأمته أنت طالق أو بائن أو تخمري ونوى به العتق لم يعتق ) " وقال الشافعي رحمه الله : تعتق إذا نوى ، وكذا على هذا الخلاف سائر ألفاظ الصريح والكناية على ما قال مشايخهم رحمه الله ، له أنه نوى ما يحتمله لفظه ; لأن بين الملكين موافقة ، إذ كل واحد منهما ملك العين أما ملك اليمين فظاهر ، وكذا ملك النكاح في حكم ملك العين ، حتى كان التأييد من شرطه والتأقيت مبطلا له ، وعمل اللفظين في إسقاط ما هو حقه وهو الملك ، ولهذا يصح التعليق فيه بالشرط .

                                                                                                        أما الأحكام فتثبت لسبب سابق وهو كونه مكلفا ، ولهذا يصلح لفظه العتق والتحرير كناية عن الطلاق فكذا عكسه .

                                                                                                        ولنا أنه نوى ما لا يحتمله لفظه ، لأن الإعتاق لغة إثبات القوة ، والطلاق رفع القيد ، وهذا لأن العبد ألحق بالجمادات وبالإعتاق يحيا فيقدر ، ولا كذلك المنكوحة فإنها قادرة إلا أن قيد النكاح مانع ، [ ص: 11 ] وبالطلاق يرتفع المانع فتظهر القوة ، ولا خفاء أن الأول أقوى ، ولأن ملك اليمين فوق ملك النكاح فكان إسقاطه أقوى ، واللفظ يصلح مجازا عما هو دون حقيقته لا عما هو فوقه ، فلهذا امتنع في المتنازع فيه وانساغ في عكسه .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        الخدمات العلمية