الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        ( ولا يفادي بالأسارى عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : يفادي بهم أسارى المسلمين ) وهو قول الشافعي رحمه الله ، لأن فيه تخليص المسلم ، وهو أولى من قتل الكافر والانتفاع به ، وله أن فيه معونة للكفرة لأنه يعود حربا علينا ، ودفع شر حرابه خير من استنقاذ الأسير المسلم ; لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه غير مضاف إلينا والإعانة بدفع أسيرهم إليهم مضاف إلينا أما المفاداة بمال يأخذه منهم لا يجوز في المشهور من المذاهب لما بينا .

                                                                                                        [ ص: 257 ] وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة استدلالا بأسارى بدر ولو كان أسلم الأسير في أيدينا لا يفادي بمسلم أسير في أيديهم لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه به وهو مأمون على إسلامهم .

                                                                                                        قال : ( ولا يجوز المن عليهم ) أي على الأسارى ، خلافا للشافعي رحمه الله فإنه يقول : من رسول الله عليه الصلاة والسلام على بعض الأسارى يوم بدر .

                                                                                                        ولنا قوله تعالى: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }ولأنه بالأسر والقسر ثبت حق الاسترقاق فيه ; فلا يجوز إسقاطه بغير منفعة وعوض ، وما رواه منسوخ بما تلونا .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        قوله : وفي " السير الكبير " أنه لا بأس به يعني فداء أسرى المشركين بمال يأخذه منهم إذا كان بالمسلمين حاجة ، استدلالا بأسارى بدر قلت : أخرج مسلم عن أبي زميل عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب ، قال : { لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، وهم ألف ، وأصحابه ثلثمائة وسبعة عشر رجلا ، إلى أن قال : فقتلوا يومئذ سبعين ، وأسروا سبعين قال ابن عباس : فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ، وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن نأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، وقال عمر : يا رسول الله أرى أن تضرب أعناقهم ، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قال عمر ، فلما كان من الغد وجد عمر النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا يبكي ، فسأله ، فقال : أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، فأنزل الله { ما كان لنبي أن يكون له أسرى }إلى قوله تعالى: { فكلوا مما غنمتم حلالا }فأحل الله الغنيمة لهم } ، مختصر ، وأخرج أبو داود ، والنسائي عن سفيان بن حبيب ثنا شعبة [ ص: 258 ] عن أبي العنبس عن أبي الشعثاء عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة }انتهى .

                                                                                                        قال في " التنقيح " : ورواه أبو بحر البكراوي عن شعبة ، وأبو العنبس هذا هو الأكثر ، لا يسمى انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : رواه أحمد في " مسنده " حدثنا علي بن عاصم عن حميد عن أنس ، قال : { استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر ، فقال : إن الله قد أمكنكم منهم ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله اضرب أعناقهم ، قال : فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد عليه السلام ، فقال : يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم ، وإنما هم إخوانكم بالأمس ، فقال عمر مثل ذلك فأعرض عنه عليه السلام ، ثم عاد عليه السلام ، فقال مثل ذلك ، فقال أبو بكر : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء ، قال : فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان من الغم ، ثم عفا عنهم ، وقبل منهم الفداء ، وأنزل الله : { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم } }الآية ، انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : روى الواقدي في " كتاب المغازي " حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة عن يزيد بن النعمان بن بشير عن أبيه ، قال : { جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء يوم بدر أربعة آلاف لكل رجل }انتهى .

                                                                                                        حدثنا إسحاق بن يحيى ، سألت نافع بن جبير ، { كيف كان الفداء يوم بدر ؟ قال : أرفعهم أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف ، إلى ألفين ، إلى ألف ، إلى قوم لا مال لهم ، من عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن المطلب بن أبي وداعة ، أسر أبوه أبو وداعة يومئذ ، ففداه ابنه المطلب بأربعة آلاف درهم } ، مختصر .

                                                                                                        حدثني ابن أبي حبيبة عن عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأنصاري ، قال : قال : { وأسر يومئذ الحارث بن أبي وجزة ، أسره سعد بن أبي وقاص ، فقدم في فدائه الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، فافتداه بأربعة آلاف }انتهى .

                                                                                                        وحدثني أيوب بن النعمان ، قال : { وأسر يومئذ أبو عزيز بن عمير ، وهو أخو مصعب بن عمير لأبيه ، وأمه ، وقع في يد محرز بن فضلة ، فقال مصعب لمحرز : اشدد يديك به ، فإن له أما بمكة كثيرة المال ، فقال له أبو عزيز : هذه وصاتك بي يا أخي ؟ فقال : إن محرزا أخي دونك ، فبعثت أمه عنه بأربعة آلاف ، قال : والسائب بن أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى أسره عبد الرحمن بن عوف ، والحارث بن عائذ بن أسد أسره حاطب بن أبي بلتعة ، وسالم بن سماح أسره سعد بن أبي وقاص ، فقدم في فدائهم عثمان بن أبي حبيش بأربعة آلاف لكل رجل ، قال : وخالد بن هشام بن المغيرة [ ص: 259 ] وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة أسره بلال ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، فقدم في فدائهم عبد الله بن أبي ربيعة ، فافتداهم بأربعة آلاف لكل رجل ، قال : والوليد بن الوليد بن المغيرة أسره عبد الله بن جحش ، فقدم في فدائه أخواه خالد وهشام ابنا الوليد ، فافتدياه بأربعة آلاف ، ثم خرجا به ، حتى بلغا به ذا الحليفة ، فرجع الوليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ، قال : وقيس بن السائب أسره عبدة بن الحسحاس ، فقدم في فدائه أخوه فروة بن السائب ، فافتداه بأربعة آلاف درهم ، فيها عرض ، قال : وأبو المنذر بن أبي رفاعة أسر ، فافتدى بألفين ، وعبد الله أبو عطاء بن السائب أسره سعد بن أبي وقاص ، فافتدى بألف درهم ، قال : وفروة بن خنيس بن حذافة أسره ثابت بن أقرم ، قدم في فدائه عمرو بن قيس ، فافتداه بأربعة آلاف درهم ، قال : وسهيل بن عمرو بن شمس أسره مالك بن الدخشم ، فقدم في فدائه مكرز بن حفص ، وكان لسهيل مال بمكة ، فقال لهم مكرز : احبسوني مكانه ، وخلوا سبيله ، فخلوا سبيل سهيل ، وحبسوا مكرز بن حفص . وبعث سهيل بالمال مكانه من مكة }.

                                                                                                        مختصر من كلام طويل .

                                                                                                        أحاديث الخصوم في المفاداة بالأسارى : واستدل للشافعي ، وأحمد في جواز المفاداة بالأسارى بأحاديث : منها ما أخرجه مسلم عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه ، قال : { خرجنا مع أبي بكر ، أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغزونا فزارة ، فلما كان بيننا وبين الماء ساعة ، أمرنا أبو بكر فعرسنا ، ثم شن الغارة ، ثم نظرت إلى عنق فيهم الذراري ، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل ، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل ، فلما رأوا السهم وقفوا ، فجئت بهم أسوقهم ، وفيهم امرأة من بني فزارة ، عليها قشع من أدم ، والقشع : النطع ، معها ابنة لها من أحسن الناس ، فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر ، فنفلني ابنتها ، فقدمنا المدينة ، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق ، فقال لي : يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك ، فقلت : هي لك يا رسول الله ، فوالله ما كشفت لها ثوبا ، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففدى بها ناسا من المسلمين ، كانوا أسروا بمكة }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي عن أبي المهلب عن عمران بن حصين [ ص: 260 ] { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين }انتهى .

                                                                                                        بلفظ الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، وطوله مسلم ، وأبو داود بقصة العضباء ، أخرجاه في " كتاب النذور والأيمان " .

                                                                                                        الحديث الثالث : روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم من على بعض الأسارى يوم بدر }قلت : روى البخاري في " صحيحه " من حديث نافع أن عمر بن الخطاب { أصاب جاريتين من سبي حنين ، فوضعهما في بعض بيوت مكة ، قال : فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبي حنين ، فجعلوا يسعون في السكك ، قال عمر : يا عبد الله ، انظر ما هذا ؟ فقال : من رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبي ، قال : اذهب ، فأرسل الجاريتين } ، مختصر ، هذا من أحاديث الباب ، والذي بعده حديث الكتاب .

                                                                                                        ومن أحاديث الباب : مأ أخرجه البخاري عن جبير بن مطعم { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر : لو كان المطعم بن عدي حيا ، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له } ، انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه أبو داود في " سننه " من طريق ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة ، قالت : { لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بمال ، وبعث فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رق لها رقة شديدة ، وقال لأصحابه : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ، قالوا : نعم يا رسول الله ، ففعلوا ، وأطلقوه ، وردوا عليها الذي لها } ، انتهى .

                                                                                                        ورواه الحاكم في " المستدرك " في المغازي " وزاد فيه : { وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلي زينب إليه ، ففعل }انتهى .

                                                                                                        وقال : صحيح الإسناد ، ولم [ ص: 261 ] يخرجاه انتهى .

                                                                                                        ورواه ابن سعد في " الطبقات " حدثنا الواقدي حدثني المنذر بن سعد مولى بني أسد بن عبد العزى عن عيسى بن معمر عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة { أن أبا العاص بن الربيع كان فيمن شهد بدرا مع المشركين ، فأسره عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري ، فلما بعث أهل مكة في فداء أساراهم قدم في فداء أبي العاص أخوه عمرو بن الربيع ، وبعثت معه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي يومئذ بمكة بقلادة لها ، كانت لخديجة بنت خويلد ، فأدخلتها عليه بتلك القلادة ، فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها ، فرق لها ، وترحم على خديجة ، وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها متاعها فافعلوا ، قالوا : نعم يا رسول الله ، فأطلقوا أبا العاص ، وردوا على زينب قلادتها ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيلها إليه ، فوعده ذلك وفعل }انتهى .

                                                                                                        قال الواقدي : وهذا عندنا أثبت من رواية من روى أن زينب هاجرت مع أبيها صلى الله عليه وسلم انتهى .

                                                                                                        وقد تقدم في " النكاح " أن زينب هاجرت مع أبيها ، والله أعلم .

                                                                                                        وقال ابن هشام في " السيرة في غزوة بدر الكبرى " : قال ابن إسحاق : { وكان ممن سمى لنا من أسارى بدر ممن من عليه بغير فداء أبو العاص بن الربيع ، من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفدائه ، ورده عليها ، والمطلب بن حنطب أسره أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري ، فخلى سبيله ، فلحق بقومه ، وصيفي بن أبي رفاعة بقي في يدي أصحابه ، فلما لم يأت أحد في فدائه أخذوا عليه ليبعثوا إليهم بفدائه ، فخلوا سبيله ، فلم يف لهم بشيء ، وأبو عزة عمرو بن عبد الله بن عثمان بن جمح الجمحي ، كان محتاجا ذا بنات ، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن عليه ، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا ، وامتدح النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات ذكرها ، ثم أعاد خبره في غزوة أحد ، وزاد : فقال له يوما : يا رسول الله أقلني ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها ، تقول : خدعت محمدا مرتين ، يا زبير اضرب عنقه ، فضرب الزبير عنقه }انتهى .

                                                                                                        وروى الواقدي في " كتاب المغازي " حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، قال : { أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسرى يوم بدر أبا عزة عمرو بن عبد الله بن عمير الجمحي ، وكان شاعرا ، فقال : يا محمد لي خمس بنات ليس لهن شيء ، [ ص: 262 ] وأنا أعطيك موثقا لا أقاتلك ولا أكثر عليك أبدا ، فتصدق بي عليهن يا محمد ، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كان يوم أحد جاءه صفوان بن أمية ، فقال له : اخرج معنا ، وضمن له إن قتل أن يجعل بناته مع بناته ، وإن عاش أعطاه مالا كثيرا ، فخرج معهم ، وجعل يدعو العرب ويحشرها ، فأسر ، ولم يؤسر من قريش غيره ، فقال : يا محمد إنما أخرجت كرها ، ولي بنات فامنن علي ، قال : لا والله لا تمسح عارضيك بمكة ، تقول : سخرت بمحمد مرتين ، يا عاصم بن ثابت اضرب عنقه ، فقدمه عاصم ، فضرب عنقه }

                                                                                                        انتهى .

                                                                                                        وحدثني عامر بن يحيى عن أبي الحويرث قال : { وأسر يومئذ من بني المطلب بن عبد مناف رجلان : السائب بن عبيد وعبيد بن عمرو بن علقمة ، وكان لا مال لهما ، ولم يقدم في فدائهما أحد ، فأرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فدية }انتهى .

                                                                                                        وحدثني محمد بن يحيى بن سهل عن أبي عفير ، قال : { وعمرو بن أبي سفيان صار في سهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرعة ، كان أسره علي ، فأرسله النبي صلى الله عليه وسلم بغير فدية }انتهى .

                                                                                                        قال : ووهب بن عمير بن وهب بن خلف أسره رفاعة بن رافع الزرقي ، فقدم أبوه في فدائه عمير بن وهب بن خلف ، فأسلم ، فأرسل له ابنه بغير فداء .




                                                                                                        الخدمات العلمية