الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
8979 - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت (حم ق ن هـ) عن أبي شريح وعن أبي هريرة - (صح)

التالي السابق


(من كان يؤمن بالله) أي إيمانا كاملا منجيا من عذابه المتوقف على امتثال الأوامر الآتية كمال الإيمان لا حقيقته، وهو على المبالغة في الاستجلاب إلى هذه الأفعال كما تقول لولدك: إن كنت ابني فأطعني.. تهييجا له على الطاعة ومبادرتها مع شهود حقوق الأبوة، لا على أنه بانتفاء طاعته تنتفي الأبوة (واليوم الآخر) وهو من آخر أيام الحياة الدنيا إلى آخر ما يقع يوم القيامة، وصف به لأنه لا ليل بعده، ولا يقال "يوم" إلا لما يعقبه ليل، أي بوجوده بما اشتمل عليه مما [ ص: 210 ] يجب الإيمان به فليفعل ما يأتي، فإن الأمر للوجوب حملا على حقيقته عند فقد الصارف، سيما وفرض انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الإيمان، واكتفى بهما عن الإيمان بالرسل والكتب وغيرهما؛ لأن الإيمان باليوم الآخر على ما هو عليه يستلزمه، فإن إيمان اليهود به إيمان بأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا ونحو ذلك، وإيمان النصارى به بأن الحشر ليس إلا بالأرواح ليس إيمانا به على ما هو عليه، والإيمان به كذلك يستلزم الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يستلزم الإيمان بجميع ما جاء به، وفي ذكره تنبيه وإرشاد لإيقاظ النفس وتحرك الهمم للمبادرة لامتثال جواب الشرط وهو (فليحسن) بلام الأمر هنا وفيما بعده، ويجوز سكونها وكسرها حيث دخلت عليها الفاء والواو، بخلافها في "ليصمت" فمكسورة لا غير، وقول النووي "هو" بالضم اعترضوه (إلى جاره) أي من كان يؤمن بجوار الله في الآخرة والرجوع إلى السكنى في جواره بدار كرامته فليكرم جاره في الدنيا بكف الأذى، وتحمل ما صدر عنه منه، والبشر في وجهه، وغير ذلك كما لا يخفى رعايته على الموفقين، والجار من بينك وبينه أربعون دارا من كل جانب، ثم الأمر بالإكرام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال: فقد يكون فرض عين، وقد يكون فرض كفاية، وقد يكون مندوبا، ويجمع الجميع أن ذلك من مكارم الأخلاق (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أي يوم القيامة، وصفه به لتأخره عن أيام الدنيا، ولأنه أخر إليه الحساب، والإيمان به تصديق ما فيه من الأحوال والأهوال (فليكرم ضيفه) الغني والفقير بطلاقة الوجه، والإتحاف، والزيارة، وقد عظم شأن الجار والضيف، حيث قرر حقهما بالإيمان بالله واليوم الآخر، قال ابن تيمية: ولا يحصل الامتثال إلا بالقيام بكفايته، فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن له مكرما لانتفاء جزء الإكرام، وإذا انتفى جزؤه انتفى كله، وفي كتاب "المنتخب من الفردوس" عن أبي الدرداء مرفوعا: إذا أكل أحدكم مع الضيف فليلقمه بيده، فإذا فعل ذلك كتب له به عمل سنة، صيام نهارها وقيام ليلها. ومن حديث قيس بن سعد : من إكرام الضيف أن يضع له ما يغسل به حين يدخل المنزل، ومن إكرامه أن يركبه إذا انقلب إلى منزله إن كان بعيدا، ومن إكرامه أن يجلس تحته. وأخرج ابن شاهين عن أبي هريرة يرفعه: من أطعم أخاه لقمة حلوة لم يذق مرارة يوم القيامة (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا) أي كلاما يثاب عليه، قال الشافعي : لكن بعد أن يتفكر فيما يريد التكلم به، فإذا ظهر له أنه خير لا يترتب عليه مفسدة ولا يجر إليها أتى به (أو ليسكت) وفي رواية للبخاري بدله "يصمت"، قال القرطبي : معناه أن المصدق بالثواب والعقاب المترتبين على الكلام في الدار الآخرة لا يخلو إما أن يتكلم بما يحصل له ثوابا أو خيرا فيغنم، أو يسكت عن شيء فيجلب له عقابا أو شرا فيسلم، وعليه فـ "أو" للتنويع والتقسيم، فيسن له الصمت حتى عن المباح لأدائه إلى محرم أو مكروه، وبفرض خلوه عن ذلك فهو ضياع الوقت فيما لا يعنيه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وأثرها في رواية البخاري "يصمت" على "يسكت" لأنه أخص؛ إذ هو السكوت مع القدرة، وهذا هو المأمور به، أما السكوت مع العجز لفساد آلة النطق فهو الخرس، أو لتوقفها فهو العي، وأفاد الخبر أن قول الخير خير من الصمت لتقديمه عليه، وأنه إنما أمر به عند عدم قول الخير، قال القرطبي : وقد أكثر الناس الكلام في تفصيل آفات الكلام، وهي أكثر من أن تدخل تحت حصر، وحاصله أن آفات اللسان أسرع الآفات للإنسان، وأعظمها في الهلاك والخسران، فالأصل ملازمة الصمت إلى أن يتحقق السلامة من الآفات والحصول على الخيرات، فحينئذ تخرج تلك الكلمة مخطومة وبأزمة التقوى مزمومة، وهذا من جوامع الكلم؛ لأن القول كله خير أو شر أو آيل إلى أحدهما، فدخل في الخير كل مطلوب من فرضها وندبها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إليه، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت، [ ص: 211 ] قال بعضهم: اجتمع الحديث على أمور ثلاثة تجمع مكارم الأخلاق، وقال بعضهم: هذا الحديث من القواعد العظيمة العميقة، لأنه بين فيه جميع أحكام اللسان الذي هو أكثر الجوارح عملا

(حم ق ت هـ عن أبي شريح ) -بضم المعجمة وفتح الراء- الخزاعي الكعبي، اسمه خويلد بن عمر أو غير ذلك، حمل لواء قومه يوم الفتح (وعن أبي هريرة ) .



الخدمات العلمية