الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الأدب

قال الله عز وجل : ما زاغ البصر وما طغى

قيل : حفظ آداب الحضرة وقال تعالى : قوا أنفسكم وأهليكم نارا جاء في التفسير عن ابن عباس فقهوهم وأدبوهم ،

أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال : أخبرنا أبو الحسن الصفار البصري قال : حدثنا غنام قال : حدثنا عبد الصمد بن النعمان قال : حدثنا عبد الملك بن الحسين عن عبد الملك بن عمير عن مصعب بن شيبة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : حق الولد على والده أن يحسن اسمه ويحسن مرضعه ويحسن أدبه  

ويحكى عن سعيد بن المسيب أنه قال : من لم يعرف ما لله عز وجل عليه في نفسه ولم يتأدب بأمره ونهيه كان من الأدب في عزلة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله عز وجل أدبني فأحسن أدبي وحقيقة الأدب  اجتماع خصال الخير فالأديب الذي اجتمع فيه خصال الخير ومنه المأدبة اسم للمجمع ،

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول : العبد يصل بطاعته إلى الجنة وبأدبه في طاعته إلى الله تعالى وسمعته يقول رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة على أنفه فقبض على يده [ ص: 446 ] قال الأستاذ : وإنما أشار إلى نفسه لأنه لا يمكن الإنسان أن يعرف من غيره أنه قبض على يده وكان الأستاذ أبو علي رحمه الله تعالى لا يستند إلى شيء وكان يوما في مجمع فأردت أن أضع وسادة خلف ظهره لأني رأيته غير مستند فتنحى عن الوسادة قليلا فتوهمت أنه توقى الوسادة لأنه لم يكن عليها خرقة أو سجادة فقال : لا أريد الاستناد فتأملت بعده حاله فكان لا يستند إلى شيء ،

سمعت أبا حاتم السجستاني يقول : سمعت أبا نصر السراج يقول : سمعت أحمد بن محمد البصري يقول : سمعت الجلاجلي البصري يقول التوحيد موجب يوجب الإيمان  فمن لا إيمان له فلا توحيد له والإيمان موجب يوجب الشريعة فمن لا شريعة له فلا إيمان له ولا توحيد والشريعة موجب يوجب الأدب فمن لا أدب له لا شريعة له ولا إيمان ولا توحيد وقال ابن عطاء : الأدب الوقوف مع المستحسنات فقيل : وما معناه ؟ قال : أن تعامل الله تعالى بالأدب سرا وعلنا فإذا كنت كذلك كنت أديبا وإن كنت أعجميا ثم أنشد :


إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح



أخبرنا محمد بن الحسين قال : سمعت عبد الله الرازي يقول : سمعت عبد الله الجريري يقول منذ عشرين سنة ما مددت رجلي وقت جلوسي في الخلوة فإن حسن الأدب مع الله تعالى  أولى ،

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول : من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل روي عن ابن سيرين أنه سئل أي الآداب أقرب إلى الله تعالى فقال : معرفة ربوبيته وعمل بطاعته والحمد لله على السراء والصبر على الضراء ،

وقال يحيى بن معاذ إذا ترك للعارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين ،

سمعت الأستاذ أبا علي يقول : ترك الأدب موجب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب [ ص: 447 ] وقيل : للحسن البصري قد أكثر الناس في علم الآداب فما أنفعها عاجلا وأوصلها آجلا فقال : التفقه في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة مما لله عز وجل عليك وقال يحيى بن معاذ : من تأدب بأدب الله تعالى صار من أهل محبة الله تعالى وقال سهل : القوم استعانوا بالله تعالى على أمر الله تعالى وصبروا لله تعالى على آداب الله تعالى وروي عن ابن مبارك أنه قال : نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم ،

سمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت محمد بن أحمد بن سعيد يقول : سمعت العباس بن حمزة يقول : حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال : قال الوليد بن عتبة قال ابن المبارك : طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون وقيل : ثلاث خصال ليس معهن غربة مجانبة أهل الريب وحسن الأدب وكف الأذى وأنشدنا الشيخ أبو عبد الله رضي الله عنه في هذا المعنى :


يزين الغريب إذا ما اغترب     ثلاث فمنهن حسن الأدب
وثانيه حسن أخلاقه     وثالثه اجتناب الريب



ولما دخل أبو حفص بغداد قال له الجنيد لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين فقال : أبو حفص حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن ،

وعن عبد الله بن المبارك أنه قال : الأدب للمعارف التوبة للمستأنف ،  

سمعت منصور بن خلف المغربي يقول : قيل لبعضهم يا سيئ الأدب فقال : لست بسيئ الأدب فقيل له : من أدبك فقال : أدبني الصوفية سمعت أبا حاتم السجستاني يقول : سمعت أبا النصر الطوسي السراج يقول الناس في الأدب على ثلاث طبقات  أما أهل الدنيا فأكثر آدابهم في الفصاحة ، والبلاغة ، وحفظ العلوم ، وأسماء الملوك ، وأشعار العرب ، [ ص: 448 ] وأما أهل الدين فأكثر آدابهم في رياضة النفوس ، وتأديب الجوارح ، وحفظ الحدود ، وترك الشهوات ، وأما أهل الخصوصية فأكثر آدابهم في طهارة القلوب ومراعاة الأسرار والوفاء بالعهود وحفظ الوقت وقلة الالتفات إلى الخواطر وحسن الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب ،

وحكي عن سهل بن عبد الله أنه قال : من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله تعالى بالإخلاص وقيل : كمال الأدب لا يصفو إلا للأنبياء عليهم السلام والصديقين وقال عبد الله بن المبارك قد أكثر الناس في الأدب ونحن نقول : هو معرفة النفس وقال الشبلي : الانبساط بالقول مع الحق سبحانه ترك الأدب وقال ذو النون المصري : أدب العارف فوق كل أدب ، لأنه معرفة مؤدب قلبه وقال بعضهم : يقول الحق سبحانه : من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب فاختر أيهما شئت الأدب أو العطب ،

وقيل : مد ابن عطاء رجله يوما بين أصحابه وقال : ترك الأدب بين أهل الأدب أدب ويشهد لهذه الحكاية الخبر الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده أبو بكر وعمر فدخل عثمان فغطى فخذه وقال : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة نبه صلى الله عليه وسلم أن حشمة عثمان رضي الله عنه وإن عظمت عنده فالحالة التي بينه وبين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كانت أصفى ، وفي قريب من معناه أنشدوا :


في انقباض وحشمة فإذا     صادفت أهل الوفاء والكرم
أرسلت لنفسي على سجيتها     وقلت ما قلت غير محتشم



وقال الجنيد إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب وقال أبو عثمان : إذا صحت المحبة تأكدت على المحب ملازمة الأدب وقال النوري : من لم يتأدب للوقت فوقته مقت [ ص: 449 ] وقال ذو النون المصري : إذا خرج المريد عن استعمال الأدب فإنه يرجع من حيث جاء ،

سمعت الأستاذ أبا علي يقول في قوله عز وجل : وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين  قال : لم يقل : ارحمني لأنه حفظ آداب الخطاب وكذلك عيسى عليه السلام حيث قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك وقال : إن كنت قلته فقد علمته ولم يقل لم أقل رعاية لآداب الحضرة ،

سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول : سمعت أبا الطيب بن الفرحان يقول : سمعت الجنيد يقول جاءني بعض الصالحين يوم الجمعة فقال لي : ابعث معي فقيرا يدخل علي سرورا ويأكل معي شيئا فالتفت فإذا أنا بفقير شهدت فيه الفاقة فدعوته وقلت له : امض مع هذا الشيخ وأدخل عليه سرورا فمضى فلم ألبث أن جاءني الرجل وقال لي : يا أبا القاسم لم يأكل ذلك الرجل إلا لقمة وخرج فقلت : لعلك قلت : كلمة جفاء عليه فقال لي : لم أقل له شيئا فالتفت فإذا أنا بالفقير جالس فقلت له : لم تتم عليه السرور فقال : يا سيدي خرجت من الكوفة وقدمت بغداد ولم آكل شيئا وكرهت أن يبدو سوء أدب مني من جهة الفاقة في حضرتك فلما دعوتني سررت إذ جرى ذلك ابتداء منك فمضيت وأنا لا أرضى له الجنان فلما جلست على مائدته سوى لقمة وقال كل فهذا أحب إلي من عشرة آلاف درهم لما سمعت هذا منه علمت أنه دنيء الهمة فتظرفت أن آكل طعامه فقال الجنيد : ألم أقل لك إنك أسأت أدبك معه فقال : يا أبا القاسم التوبة فسأله أن يمضي معه ويفرحه ، [ ص: 450 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية