الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب المحبة قال الله -عز وجل-: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه .

أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: حدثنا السلمي قال: حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من أحب لقاء الله -تعالى- أحب الله لقاءه، ومن لم يحب لقاء الله لم يحب الله -تعالى- لقاءه   .

أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد الصفار البصري قال: حدثنا عبد الله بن أيوب قال: حدثنا الحكم بن موسى قال: حدثنا الهيثم بن خارجة قال: حدثنا الحسن بن يحيى ، عن صدقة الدمشقي ، عن هشام الكتاني ، عن أنس بن مالك ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن جبريل -عليه السلام-، عن ربه -سبحانه وتعالى-، قال: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة،  وما ترددت في شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت، وأكره مساءته، ولا بد له منه، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعا، وبصرا، ويدا ومؤيدا .

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا عبيد بن شريك ، قال: أخبرنا يحيى ، قال: حدثنا مالك ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه، عن أبي هريرة ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [ ص: 485 ]

إذا أحب الله -عز وجل- العبد قال لجبريل : يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل -عليه السلام-، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله –تعالى- قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله -عز وجل- العبد.  


قال مالك : لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك.

قال الأستاذ: المحبة حالة شريفة، شهد الحق -سبحانه- بها للعبد،  وأخبر عن محبته لعبد، فالحق -سبحانه- يوصف بأنه يحب العبد، والعبد يوصف بأنه يحب الحق -سبحانه-، والمحبة على لسان العلماء هي الإرادة، وليس مراد القوم بالمحبة الإرادة، فإن الإرادة لا تتعلق بالقديم، اللهم إلا أن تحمل على إرادة التقرب إليه، والتعظيم له.

ونحن نذكر من تحقيق هذه المسألة طرفا إن شاء الله تعالى، فمحبة الحق -سبحانه- للعبد إرادته لإنعام مخصوص عليه،  كما أن رحمته له إرادة الإنعام، فالرحمة أخص من الإرادة، والمحبة أخص من الرحمة، فإرادة الله -تعالى- لأن يوصل إلى العبد الثواب والإنعام تسمى رحمة، وإرادته لأن يخصه بالقربة والأحوال العلية تسمى محبة، فإرادته -سبحانه- صفة واحدة، فبحسب تفاوت متعلقاتها تختلف أسماؤها، فإذا تعلقت بالعقوبة تسمى غضبا، وإذا تعلقت بعموم النعم تسمى رحمة، وإذا تعلقت بخصوصها تسمى محبة.

وقوم قالوا: محبة الحق -سبحانه- للعبد مدحه له، وثناؤه عليه بالجميل، فيعود معنى محبته له على هذا القول إلى كلامه، وكلامه قديم.  

وقال قوم: محبته للعبد من صفات فعله، فهو إحسان مخصوص يلقى الله العبد به، وحالة مخصوصة يرقيه إليها، كما قال بعضهم: إن رحمته بالعبد نعمته معه.

وقوم من السلف قالوا: محبته من الصفات الخبرية، فأطلقوا اللفظ، وتوقفوا عن التفسير، فأما ما عدا هذه الجملة مما هو في المعقول من صفات محبة الخلق، كالميل إلى الشيء، والاستئناس بالشيء، وكحالة يجدها المحب مع محبوبه من المخلوقين، فالقديم -سبحانه- يتعالى عن ذلك.

وأما محبة العبد لله -تعالى-، فحالة يجدها من قلبه تلطف عن العبارة،   [ ص: 486 ] وقد تحمله تلك الحالة على التعظيم له، وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه، والاهتياج إليه، وعدم القرار من دونه، ووجود الاستئناس بدوام ذكره له بقلبه، وليست محبة العبد له -سبحانه- متضمنة ميلا، ولا اختطاطا، كيف وحقيقة الصمدية مقدسة عن اللحوق، والدرك والإحاطة.

والمحب بوصف الاستهلاك في المحبوب أولى منه بأن يوصف بالاختطاط، ولا توصف المحبة بوصف، ولا تحد بحد أوضح، ولا أقرب إلى الفهم من المحبة والاستقصاء في المقال عند حصول الإشكال، فإذا زال الاستعجام والاستبهام سقطت الحاجة إلى الاستغراق في شرح الكلام.

وعبارات الناس عن المحبة كثيرة، وتكلموا في أصلها في اللغة، فبعضهم قال: الحب اسم لصفاء المودة، لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان.

وقيل: الحباب: ما يعلو الماء عند المطر الشديد، فعلى هذا المحبة: غليان القلب، وثورانه عند العطش، والاهتياج إلى لقاء المحبوب.

وقيل: إنه مشتق من حباب الماء بفتح الحاء وهو معظمه فسمي بذلك، لأن المحبة غاية معظم ما في القلب من المهمات.

وقيل: اشتقاقه من اللزوم والثبات، يقال: أحب البعير، وهو أن يبرك فلا يقوم، فكأن المحب لا يبرح بقلبه عن ذكر محبوبه.

وقيل: الحب مأخوذ من الحب وهو القرط قال الشاعر:


تبينت الحية النضناض منه مكان الحب تستمع السرارا



وسمي القرط حبا، إما للزومه للأذن، أو لقلقه، وكلا المعنيين صحيح في الحب.

وقيل: هو مأخوذ من الحب، والحب جمع حبة، وحبة القلب: ما به قوامه، فسمي الحب حبا باسم محله.

[ ص: 487 ] وقيل: الحب والحب: كالعمر والعمر، وقيل: هو مأخوذ من الحبة بكسر الحاء، وهي بزور الصحراء، فسمي الحب حبا، لأنه لباب الحياة، كما أن الحب لباب النبات، وقيل: الحب هي الخشبات الأربع التي توضع عليها الجرة فسميت المحبة حبا؛ لأنه يتحمل عن محبوبه كل عز وذل.

وقيل: هو من الحب الذي فيه الماء؛ لأنه يمسك ما فيه فلا يسع فيه غير ما امتلأ به، كذلك إذا امتلأ القلب بالحب فلا مساغ فيه لغير محبوبه.

وأما أقاويل الشيوخ فيه فقال بعضهم: المحبة الميل الدائم بالقلب الهائم.

وقيل: المحبة إيثار المحبوب على جميع المصحوب.  

وقيل: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب.

وقيل: محو المحب بصفاته، وإثبات المحبوب بذاته.

وقيل: مواطأة القلب لمرادات الرب.

وقيل: خوف ترك الحرمة مع إقامة الخدمة.

وقال أبو يزيد البسطامي : المحبة استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك.

وقال سهل : الحب معانقة الطاعة، ومباينة المخالفة، وسئل الجنيد عن المحبة فقال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب.

أشار بهذا إلى استيلاء ذكر المحبوب حتى لا يكون الغالب على قلب المحب إلا ذكر صفات المحبوب، والتغافل بالكلية عن صفات نفسه والإحساس بها.

وقال أبو علي الروذباري : المحبة: الموافقة، قال أبو عبد الله القرشي : حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء، وقال الشبلي : سميت المحبة محبة؛ لأنها تمحو من القلب ما سوى المحبوب، وقال ابن عطاء : المحبة إقامة العتاب على الدوام.

[ ص: 488 ] سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق -رحمه الله تعالى- يقول: المحبة لذة، ومواضع الحقيقة دهش، وسمعته يقول: العشق مجاوزة الحد في المحبة، والحق -سبحانه- لا يوصف بأنه يجاوز الحد، فلا يوصف بالعشق، ولو جمع محاب الخلق كلهم لشخص واحد لم يبلغ ذلك استحقاق قدر الحق -سبحانه- فلا يقال: إن عبدا جاوز الحد في محبة الله -تعالى- فلا يوصف الحق -سبحانه- بأنه يعشق، ولا العبد في صفته -سبحانه- بأنه يعشق، فنفى العشق ولا سبيل له إلى وصف الحق -سبحانه- لا من الحق للعبد، ولا من العبد للحق سبحانه.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت الشبلي يقول: المحبة أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك، وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت ابن عطاء يقول وقد سئل عن المحبة فقال: أغصان تغرس في القلب، فتثمر على قدر العقول، وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: محبة توجب حقن الدماء، ومحبة توجب سفك الدماء، وسمعته يقول: سمعت محمد بن علي العلوي يقول: سمعت جعفرا يقول: سمعت سمنونا يقول: ذهب المحبون لله -تعالى- بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: المرء مع من أحب، فهم مع الله تعالى.

وقال يحيى بن معاذ : حقيقة المحبة ما لا ينقص بالجفاء،  وقال: يزيد بالبر، وقال: ليس بصادق من ادعى محبته، ولم يحفظ حدوده.

وقال الجنيد : إذا صحت المحبة سقطت شروط الأدب، وفي معناه سمعت الأستاذ أبا علي ينشد:


إذا صفت المودة بين قوم     ودام ودادهم سمج الثناء



وكان يقول: لا ترى أبا شفيقا يبجل ابنه في الخطاب والناس يتكلفون في مخاطبته، والأب يقول: يا فلان، وقال الكتاني : المحبة الإيثار للمحبوب.

سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا سعيد الأرجاني يقول: سمعت بندار بن الحسين [ ص: 489 ] يقول: رئي مجنون بني عامر في المنام فقيل له: ما فعل الله -تعالى- بك؟ فقال: غفر لي، وجعلني حجة على المحبين، وقال أبو يعقوب السوسي : حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله -عز وجل- وينسى حوائجه إليه، وقال الحسين بن منصور : حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: قيل للنصراباذي : ليس لك من المحبة شيء؟ .

فقال: صدقوا، ولكن لي حسراتهم فهو ذا أحترق فيه، وسمعته يقول: قال النصراباذي : المحبة مجانبة السلو على كل حال، ثم أنشد:


ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة     فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها     أماني لم تصدق كلمحة بارق



وقال محمد بن الفضل : المحبة سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب، وقال الجنيد : المحبة إفراط الميل بلا نيل، ويقال: المحبة تشويش في القلوب يقع من المحبوب، ويقال: المحبة فتنة تقع في الفؤاد من المراد، وأنشد ابن عطاء :


غرست لأهل الحب غصنا من الهوى     ولم يك يدري ما الهوى أحد قبلي
فأورق أغصانا وأينع صبوة     وأعقب لي مرا من الثمر المحلي
وكل جميع العاشقين هواهم     إذ نسبوه كان من ذلك الأصل



وقيل: الحب أوله ختل وآخره قتل.

سمعت الأستاذ أبا علي -رحمه الله تعالى- يقول في معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: حبك للشيء يعمي ويصم.

[ ص: 490 ]

فقال: يعمي عن الغير غيرة وعن المحبوب هيبة، ثم أنشد:


إذا ما بدا لي تعاظمته     فأصدر في حال من لم يرد



سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارث المحاسبي يقول: المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرا وجهرا، ثم علمك بتقصيرك في حبه.

وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت عباس بن عصام يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا.

وقال الشبلي : المحب إذا سكت هلك، والعارف إن لم يسكت هلك. وقيل: المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب. وقيل: المحبة بذل المجهود، والحبيب يفعل ما يشاء.

وقال النوري : المحبة هتك الأستار، وكشف الأسرار.

وقال أبو يعقوب السوسي : لا تصح المحبة إلا بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب بفناء علم المحبة.

وقال جعفر: قال الجنيد : دفع السري إلي رقعة وقال: هذه لك خير من سبع مائة قصة أو حديث يعلو، فإذا فيها:


ولما ادعيت الحب قالت: كذبتني     فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا     وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقي لك الهوى     سوى مقلة تبكي بها وتناجيا



[ ص: 491 ] وقال ابن مسروق : رأيت سمنونا يتكلم في المحبة، فتكسرت قناديل المسجد كلها.

سمعت محمد بن الحسن يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت سمنونا وهو جالس في المسجد يتكلم في المحبة؛ إذ جاء طير صغير فقرب منه، ثم قرب فلم يزل يدنو حتى جلس على يده، ثم ضرب بمنقاره الأرض حتى سال منه الدم، ثم مات.

وقال الجنيد : كل محبة كانت لغرض إذا زال الغرض زالت تلك المحبة. وقيل: حبس الشبلي في المارستان، فدخل عليه جماعة، فقال: من أنتم؟ قالوا: إنا محبوك يا أبا بكر، فأقبل يرميهم بالحجارة ففروا، فقال: إن ادعيتم محبتي فاصبروا على بلائي، وأنشد الشبلي :


يا أيها السيد الكريم     حبك بين الحشا مقيم
يا رافع النوم عن جفوني     أنت بما مر بي عليم



سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت النهرجوري يقول: سمعت علي بن عبيد يقول: كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد : سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته، فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السموات والأرض وما روي بعد، ولسانه خارج ويقول: هل من مزيد.

وأنشدوا:


عجبت لمن يقول ذكرت إلفي     وهل أنسى فأذكر ما نسيت
أموت إذا ذكرتك، ثم أحيا     ولولا حسن ظني ما حييت
فأحيا بالمنى وأموت شوقا     فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحب كأسا بعد كأس     فما نفد الشراب وما رويت



وقيل: أوحى الله -تعالى- إلى عيسى -عليه السلام-: إني إذا اطلعت على قلب عبد فلم أجد فيه حب الدنيا والآخرة ملأته من حبي.

ورأيت بخط الأستاذ أبي علي الدقاق -رحمه الله تعالى- في بعض الكتب المنزلة: عبدي أنا وحقك لك محب، فبحقي كن لي محبا.

وقال عبد الله بن المبارك : من أعطي شيئا من المحبة ولم يعط مثله من الخشية فهو مخدوع.  

[ ص: 492 ]

وقيل: المحبة ما يمحو أثرك.

وقيل: المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم السكر الذي يحصل عند الشهود لا يوصف، وأنشدوا:


فأسكر القوم دور كأس     وكان سكري من المدير



وكان الأستاذ أبو علي الدقاق ينشد كثيرا:


لي سكرتان وللندمان واحدة     شيء خصصت به من بينهم وحدي



وقال ابن عطاء : المحبة إقامة العتاب على الدوام.

وكان للأستاذ أبي علي جارية تسمى فيروز وكان يحبها؛ إذ كانت قد خدمته كثيرا، فسمعته يقول: كانت فيروز تؤذيني يوما وتستطيل علي بلسانها، فقال لها أبو الحسن القارئ : لم تؤذين هذا الشيخ؟ فقالت: لأني أحبه.

وقال يحيى بن معاذ مثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب، وقيل: إن شابا أشرف على الناس في يوم عيد وقال:


من مات عشقا فليمت هكذا     لا خير في عشق بلا موت



وألقى نفسه من سطح عال فوقع ميتا.

وحكي أن بعض أهل الهند عشق جارية، فرحلت الجارية، فخرج الرجل في وداعها فدمعت إحدى عينيه دون الأخرى؛ فغمض التي لم تدمع أربعا وثمانين سنة ولم يفتحها؛ عقوبة لها لأنها لم تبك على فراق حبيبته، وفي معناه أنشدوا:


بكت عيني غداة البين دمعا     وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت بدمع     بأن غمضتها يوم التقينا



وقال بعضهم: كنا عند ذي النون المصري فتذاكرنا المحبة، فقال ذو النون : كفوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها، ثم أنشأ يقول:


الخوف أولى بالمسيء     إذا تأله والحزن
والحب يجمل بالتقى     وبالنقى من الدرن



[ ص: 493 ] وقال يحيى بن معاذ : من نشر المحبة عند غير أهلها فهو في دعواه دعي.

وقيل: ادعى رجل الاستهلاك في محبة شخص، فقال له الشاب: كيف هذا وهذا أخي أحسن مني وجها وأتم جمالا؟ فرفع الرجل رأسه يلتفت، وكانا على سطح فألقاه من السطح، وقال: هذا أجر من يدعي هوانا وينظر إلى سوانا.

وكان سمنون يقدم المحبة على المعرفة، والأكثرون يقدمون المعرفة على المحبة، وعند المحققين المحبة استهلاك في لذة، والمعرفة شهود في حيرة، وفناء في هيبة.

وقال أبو بكر الكتاني : جرت مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا له: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق رأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد -جبرك الله تعالى- يا تاج العارفين.

وقيل: أوحى الله -تعالى- إلى داود -عليه السلام-: يا داود، إني حرمت على القلوب أن يدخلها حبي وحب غيري فيها.

أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن القاسم قال: حدثنا هميم بن همام قال: أخبرنا إبراهيم بن الحارث قال: حدثني عبد الرحمن بن عفان قال: حدثني محمد بن أيوب قال: حدثني أبو العباس خادم الفضيل بن عياض قال: احتبس بول الفضيل فرفع يديه وقال: اللهم بحبي لك إلا أطلقته عني. قال: فما برحنا حتى شفي.

وقيل: المحبة الإيثار كامرأة العزيز لما تناهت في أمرها قالت: أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين وفي الابتداء قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم فوركت الذنب في الابتداء عليه، وفي الانتهاء نادت على نفسها بالخيانة.

سمعت الأستاذ أبا علي ، يقول ذلك.

[ ص: 494 ]

وحكي عن أبي سعيد الخراز أنه قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام فقلت: يا رسول الله، اعذرني فإن محبة الله -تعالى- شغلتني عن محبتك، فقال: يا مبارك من أحب الله -تعالى- فقد أحبني.

وقيل: قالت رابعة في مناجاتها: إلهي أتحرق بالنار قلبا يحبك، فهتف بها هاتف: ما كنا نفعل هكذا؛ فلا تظني بنا ظن السوء.

وقيل: الحب حرفان حاء وباء، فالإشارة فيه أن من أحب فليخرج عن روحه وبدنه.

وكالإجماع من إطلاقات القوم أن المحبة هي الموافقة، وأشد الموافقات الموافقة بالقلب، والمحبة توجب انتفاء المباينة، فإن المحب أبدا مع محبوبه، وبذلك ورد الخبر:

حدثنا الإمام أبو بكر بن فورك -رحمه الله تعالى- قال: أخبرنا القاضي أحمد بن محمود بن خرزاذ ، قال: حدثنا الحسين بن حماد بن فضالة قال: حدثنا يحيى بن حبيب قال: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن أبي موسى الأشعري ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قيل له: إن الرجل ليحب القوم ولما يلحق بهم، فقال: المرء مع من أحب .

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت عبد الله الرازي ، يقول: سمعت أبا عثمان الحيري يقول: سمعت أبا حفص يقول: أكثر فساد الأحوال من ثلاثة: فسق العارفين، وخيانة المحبين، وكذب المريدين.

قال أبو عثمان : فسق العارفين إطلاق الطرف واللسان والسمع إلى أسباب الدنيا ومنافعها، وخيانة المحبين اختيار هواهم على رضا الله -عز وجل- فيما يستقبلهم، وكذب المريدين أن يكون ذكر الخلق ورؤيتهم تغلب عليهم على ذكر الله -عز وجل-.

وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا القاسم الجوهري يقول: سمعت أبا علي ممشاد بن سعيد العكبري ، يقول: [ ص: 495 ]

راود خطاف خطافة في قبة سليمان -عليه السلام- فامتنعت عليه، فقال لها: لم تمتنعين علي، وإن شئت قلبت القبة على سليمان ، فدعاه سليمان -عليه السلام- وقال له: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا نبي الله، إن العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم، فقال: صدقت.

[ ص: 496 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية