اعلم أن من المعلوم أن كل طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها انفردوا بها عمن سواهم تواطأوا عليها لأغراض لهم فيها من تقريب الفهم على المخاطبين بها أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم بإطلاقها، وهذه الطائفة مستعملون ألفاظا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف أو مجلوبة بضرب تصرف، بل هي معان أودعها الله تعالى قلوب قوم واستخلص لحقائقها أسرار قوم ونحن نريد شرح هذه الألفاظ: تسهيل الفهم على من يريد الوقوف على معانيهم من سالكي طرقهم ومتبعي سنتهم. [ ص: 151 ]
فمن ذلك:
الوقت
حقيقة الوقت عند أهل التحقيق حادث متوهم علق حصوله على حادث متحقق، فالحادث المتحقق وقت الحادث المتوهم تقول: آتيك رأس الشهر، فالإتيان متوهم ورأس الشهر حادث متحقق فرأس الشهر وقت الإتيان.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول: الوقت ما أنت فيه إن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن. يريد بهذا أن وقد يعنون بالوقت ما هو فيه من الزمان، فإن قوما قالوا: الوقت ما بين الزمانين يعني الماضي والمستقبل، ويقولون: الوقت ما كان هو الغالب على الإنسان، الصوفي ابن وقته.
يريدون بذلك أنه مشتغل بما هو أولى به في الحال قائم بما هو مطالب به في الحين.
وقيل: الفقير لا يهمه ماضي وقته وآتيه، بل يهمه وقته الذي هو فيه.
وقيل: الاشتغال بفوات وقت ماض تضييع وقت ثان، وقد يريدون بالوقت ما يصادفهم من تصريف الحق لهم دون ما يختارون لأنفسهم، ويقولون فلان بحكم الوقت، أي أنه مستسلم لما يبدو له من الغيب من غير اختيار له، وهذا فيما ليس لله تعالى عليهم فيه أمر أو اقتضاء بحق شرع، إذ التضييع لما أمرت به:
وإحالة الأمر فيه على التقدير، وترك المبالاة بما يحصل منك من التقصير خروج عن الدين. [ ص: 152 ]
ومن كلامهم: الوقت سيف، أي: كما أن السيف قاطع، فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب.
وقيل: السيف لين مسه قاطع حده، فمن لاينه سلم، ومن خاشنه اصطلم، كذلك الوقت من استسلم لحكمه نجا، ومن عارضه انتكس وتردى، وأنشدوا في ذلك:
وكالسيف إن لاينته لان مسه وحداه إن خاشنته خشنان
ومن ساعده الوقت فالوقت له وقت، ومن ناكده الوقت فالوقت عليه مقت.
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: الوقت مبرد يسحقك ولا يمحقك. يعني: لو محاك وأفناك لتخلصت حين فنيت، لكنه يأخذ منك ولا يمحوك بالكلية، وكان ينشد في هذا المعنى:
كل يوم يمر يأخذ بعضي يورث القلب حسرة ثم يمضي
وكان ينشد أيضا:
كأهل النار إن نضجت جلود أعيدت للشقاء لهم جلود
وفي معناه:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
والكيس من كان يحكم وقته إن كان وقته الصحو فقيامه بالشريعة، وإن كان وقته المحو فالغالب عليه أحكام الحقيقة، [ ص: 153 ]