ومن ذلك:
الغيبة والحضور
فالغيبة غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق لاشتغال الحس بما ورد عليه ثم قد يغيب عن إحساسه بنفسه وغيره بوارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب كما روي أن الربيع بن خيثم كان يذهب إلى رضي الله عنه فمر بحانوت حداد فرأى الحديدة المحماة في الكير فغشي عليه ولم يفق إلى الغد فلما أفاق سئل عن ذلك فقال: تذكرت كون أهل النار في النار فهذه غيبة زادت على حدها حتى صارت غشية. ابن مسعود
وروي عن علي بن الحسين أنه كان في سجوده فوقع حريق في داره فلم ينصرف عن صلاته، فسئل عن حاله فقال: ألهتني النار الكبرى عن هذه النار وربما تكون الغيبة عن إحساسه بمعنى يكاشف به من الحق سبحانه وتعالى ثم إنهم مختلفون في ذلك على حسب أحوالهم، ومن المشهور أن ابتداء حال أبي حفص النيسابوري الحداد في ترك الحرفة أنه كان على حانوته فقرأ قارئ آية من القرآن فورد على قلب وارد تغافل عن إحساسه فأدخل يده في النار وأخرج الحديدة المحماة بيده فرأى تلميذ له ذلك فقال: يا أستاذ ما هذا؟ فنظر أبي حفص أبو حفص إلى ما ظهر عليه فترك الحرفة وقام من حانوته.
وكان قاعدا وعنده امرأته فدخل عليه الجنيد فأرادت امرأته أن تستتر فقال لها الشبلي لا خبر الجنيد: عنك فاقعدي [ ص: 174 ] فلم يزل يكلمه للشبلي حتى بكى الجنيد فلما أخذ الشبلي في البكاء قال الشبلي لامرأته: استتري فقد أفاق الجنيد من غيبته. الشبلي
سمعت أبا نصر المؤذن بنيسابور وكان رجلا صالحا قال: كنت أقرأ القرآن في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق بنيسابور وقت كونه هناك وكان يتكلم في الحج كثيرا، فأثر في قلبي كلامه فخرجت إلى الحج تلك السنة وتركت الحانوت والحرفة وكان الأستاذ أبو علي رحمه الله خرج إلى الحج أيضا في تلك السنة وكنت مدة كونه بنيسابور أخدمه وأواظب على القراءة في مجلسه فرأيته يوما في البادية تطهر ونسي قمقمة كانت بيده فحملتها، فلما عاد إلى رحله وضعتها عنده فقال: جزاك الله تعالى خيرا حيث حملت هذا، ثم نظر إلي طويلا كأنه لم يرني قط وقال: رأيتك مرة فمن أنت؟.
فقلت: المستغاث بالله تعالى صحبتك مدة وخرجت عن مسكني ومالي بسببك وتقطعت في المفازة بك والساعة تقول رأيتك مرة.
وأما الحضور فقد يكون حاضرا بالحق لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق على معنى أنه يكون كأنه حاضر وذلك لاستيلاء ذكر الحق على قلبه فهو حاضر بقلبه بين يدي ربه تعالى فعلى حسب غيبته عن الخلق يكون حضوره بالحق فإن غاب بالكلية كان الحضور على حسب الغيبة.
فإذا قيل فلان حاضر فمعناه أنه حاضر بقلبه لربه غير غافل عنه ولا ساه مستديم للذكر ثم يكون مكاشفا في حضوره على حسب رتبته بمعان يخصه الحق سبحانه وتعالى بها.
وقد يقال لرجوع العبد إلى إحساسه بأحوال نفسه وأحوال الخلق إنه حضر أي رجع عن غيبته، فهذا يكون حضورا بخلق والأول حضورا بحق، وقد تختلف أحوالهم في الغيبة، فمنهم من لا تمتد غيبته، ومنهم من تدوم غيبته وقد حكي أن بعث إنسانا من أصحابه إلى ذا النون المصري لينقل إليه صفة أبي يزيد فلما جاء الرجل إلى أبي يزيد، بسطام سأل عن دار فدخل عليه فقال له أبي يزيد أبو يزيد: ما تريد؟ [ ص: 175 ] فقال: أريد أبا يزيد؟ فقال: من أبو يزيد؟ وأين أبو يزيد؟ أنا في طلب فخرج الرجل وقال: هذا مجنون، فرجع الرجل إلى أبي يزيد، فأخبره بما شهد فبكى ذي النون وقال: أخي ذو النون أبو يزيد ذهب في الذاهبين إلى الله.
[ ص: 176 ]