فأما قراءة التحقيق وبين بين ، فقد ضعفها جماعة من النحويين [ ص: 24 ] كأبي علي الفارسي وتابعيه ، ومن القراء أيضا من ضعف التحقيق مع روايته له ، وقراءته به لأصحابه . ومنهم من أنكر التسهيل بين بين ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف ، وقرءوا بياء خفيفة الكسر ، نصوا على ذلك في كتبهم .
وأما القراءة بالياء فهي التي ارتضاها الفارسي وهؤلاء الجماعة ، لأن النطق بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل ، وهمزة بين بين بزنة المخففة . والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لحنا ، وتحقيق الهمزتين غير مقبول عند البصريين قال : " فإن قلت : كيف لفظ " أئمة " ؟ ، قلت : بهمزة بعدها همزة بين بين أي : بين مخرج الهمزة والياء ، وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة ، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين . وأما التصريح بالياء فلا يجوز أن تكون ، ومن قرأ بها فهو لاحن محرف " . قال الشيخ : " وذلك دأبه في تلحين المقرئين ، وكيف تكون لحنا ، وقد قرأ بها رأس النحاة البصريين ، أبو عمرو بن العلاء ، وقارئ أهل مكة ابن كثير ، وقارئ أهل المدينة نافع ؟ " . قلت : لا ينقم على الزمخشري شيء فإنه إنما قال إنها غير مقبولة عند البصريين ، ولا يلزم من ذلك أنه لا يقبلها ، غاية ما في الباب ، أنه نقل عن غيره . وأما التصريح بالياء ، فإنه معذور فيه لأنه كما قدمت لك ، إنما اشتهر بين القراء التسهيل بين بين لا الإبدال المحض ، حتى إن الشاطبي جعل ذلك مذهبا للنحويين لا للقراء ، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النحاة في هذه اللفظة .
وقد رد أبو البقاء قراءة التسهيل بين بين فقال : " ولا يجوز هنا أن تجعل بين بين ، كما جعلت همزة " أئذا " ؛ لأن الكسرة هنا منقولة وهناك [ ص: 25 ] أصلية ، ولو خففت الهمزة الثانية [هنا] على القياس لقلبت ألفا لانفتاح ما قبلها ، ولكن ترك لتتحرك بحركة الميم في الأصل " . قلت : قوله " منقولة " لا يفيد لأن النقل هنا لازم ، فهو كالأصل . وقوله : " ولو خففت على القياس إلى آخره " لا يفيد أيضا لأن الاعتبار بالإدغام سابق على الاعتبار بتخفيف الهمزة .
ولذلك موضع يضيق هذا الموضع عنه .
ووزن أئمة : أفعلة ؛ لأنها جمع إمام ، كحمار وأحمرة ، والأصل أأممة ، فالتقى ميمان فأريد إدغامهما فنقلت حركة الميم الأولى للساكن قبلها ، وهو الهمزة الثانية ، فأدى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة : فالنحويون البصريون يوجبون إبدال الثانية ياء ، وغيرهم يحقق أو يسهل بين بين . ومن أدخل الألف فللخفة حتى يفرق بين الهمزتين ، والأحسن حينئذ أن يكون ذلك في التحقيق كما قرأ هشام . وأما ما رواه الشيخ عن نافع من المد مع نقله عنه أنه يصرح بالياء فللمبالغة في الخفة .
قوله : لا أيمان قرأ ابن عامر : " لا إيمان " بكسر الهمزة ، وهو مصدر آمن يؤمن إيمانا . وهل هو من الأمان ؟ وفي معناه حينئذ وجهان أحدهما : أنهم لا يؤمنون في أنفسهم أي : يعطون أمانا بعد نكثهم وطعنهم ، ولا سبيل إلى ذلك . والثاني : الإخبار بأنهم لا يوفون لأحد بعهد يعقدونه له . أو من التصديق أي : إنهم لا إسلام لهم . واختار مكي التأويل الأول لما فيه من تجديد فائدة لم يتقدم لها ذكر ؛ لأن وصفهم بالكفر وعدم الإيمان قد سبق وعرف .
وقرأ الباقون بالفتح ، وهو جمع يمين . وهذا مناسب للنكث ، وقد أجمع [ ص: 26 ] على فتح الثانية . ومعنى نفي الأيمان عن الكفار ، أنهم لا يوفون بها ، وإن صدرت منهم وثبتت . وهذا كقول الآخر :
2473 - وإن حلفت لا تنقض الدهر عهدها فليس لمخضوب البنان يمين
وبذلك قال الشافعي . وحمله أبو حنيفة على حقيقته : أن يمين الكافر لا تكون يمينا شرعيا ، وعند الشافعي يمين شرعية .


