الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (81) قوله تعالى : فأسر : قرأ نافع وابن كثير : ( فاسر بأهلك ) هنا وفي الحجر ، وفي الدخان : فأسر بعبادي ، وقوله : أن أسر في طه والشعراء ، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجا وتثبت مكسورة ابتداء . والباقون " فأسر " بهمزة القطع تثبت مفتوحة درجا وابتداء ، والقراءتان مأخوذتان من لغتي هذا الفعل فإنه يقال : سرى ، ومنه والليل إذا يسر ، وأسرى ، ومنه : سبحان الذي أسرى وهل هما بمعنى واحد [ ص: 365 ] أو بينهما فرق ؟ خلاف مشهور . فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو قول أبي عبيد . وقيل : بل أسرى لأول الليل ، وسرى لآخره ، وهو قول الليث ، وأما سار فمختص بالنهار ، وليس مقلوبا من سرى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بأهلك يجوز أن تكون الباء للتعدية ، وأن تكون للحال أي : مصاحبا لهم . وقوله : " بقطع " حال من " أهلك " أي : مصاحبين لقطع ، على أن المراد به الظلمة . وقيل : الباء بمعنى " في " . والقطع هنا نصف الليل ، لأنه قطعة منه مساوية لباقيه ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      2696 - ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم الكلام على القطع في يونس بأشبع من هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إلا امرأتك ابن كثير وأبو عمرو برفع " امرأتك " والباقون بنصبها . وفي هذه الآية الكريمة كلام كثير لا بد من استيفائه . أما قراءة الرفع ففيها وجهان ، أشهرهما عند المعربين : أنه على البدل من " أحد " وهو أحسن من النصب ، لأن الكلام غير موجب . وهذا الوجه قد رده أبو عبيد بأنه يلزم منه أنهم نهوا عن الالتفات إلا المرأة ، فإنها لم تنه عنه ، وهذا لا يجوز ، ولو كان الكلام " ولا يلتفت " برفع " يلتفت " يعني على أن تكون " لا " نافية ، فيكون الكلام خبرا عنهم بأنهم لم يلتفتوا إلا امرأته فإنها تلتفت ، لكان الاستثناء بالبدلية واضحا ، لكنه لم يقرأ برفع " يلتفت " أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 366 ] وقد استحسن ابن عطية هذا الإلزام من أبي عبيد ، وقال : " إنه وارد على القول باستثناء المرأة من " أحد " سواء رفعت المرأة أو نصبتها " . قلت : وهذا صحيح ، فإن أبا عبيد لم يرد الرفع لخصوص كونه رفعا ، بل لفساد المعنى ، وفساد المعنى دائر مع الاستثناء من " أحد " ، وأبو عبيد يخرج النصب على الاستثناء من " بأهلك " ، ولكنه يلزم من ذلك إبطال قراءة الرفع ، ولا سبيل إلى ذلك لتواترها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد انفصل المبرد عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأن النهي في اللفظ لـ " أحد " وهو في المعنى للوط عليه السلام ، إذ التقدير : لا تدع منهم أحدا يلتفت ، كقولك لخادمك : " لا يقم أحد " النهي لأحد ، وهو في المعنى للخادم ، إذ المعنى : " لا تدع أحدا يقوم " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : فآل الجواب إلى أن المعنى : لا تدع أحدا يلتفت إلا امرأتك فدعها تلتفت ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك : " لا تدع أحدا يقوم إلا زيدا ، معناه : فدعه يقوم . وفيه نظر ؛ إذ المحذور الذي قد فر منه أبو عبيد موجود هو أو قريب منه هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن الرفع على الاستثناء المنقطع ، والقائل بهذا جعل قراءة النصب أيضا من الاستثناء المنقطع ، فالقراءتان عنده على حد سواء ، ولنسرد كلامه لنعرفه فقال : " الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء معهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، ولكن استؤنف الإخبار عنها ، فالمعنى : لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا ، ويؤيد هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر ، وليس فيها استثناء البتة ، قال تعالى : فأسر بأهلك الآية . فلم تقع العناية في ذلك [ ص: 367 ] إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى ، فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعا لا مقصودا بالإخراج مما تقدم ، وإذا اتضح هذا المعنى علم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع ، وفيه النصب والرفع ، فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر ، والرفع لغة تميم وعليه اثنان من القراء " . قال الشيخ : " وهذا الذي طول به لا تحقيق فيه ، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات ، وجعل استثناء منقطعا ، كان من المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل بحال ، وهذا النوع يجب فيه النصب على كلتا اللغتين ، وإنما تكون اللغتان في ما جاز توجه العامل عليه ، وفي كلا النوعين يكون ما بعد " إلا " من غير الجنس المستثنى ، فكونه جاز في اللغتان دليل على أنه يمكن أن يتوجه عليه العامل ، وهو قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات ، فكان يجب فيه إذ ذاك النصب قولا واحدا " .

                                                                                                                                                                                                                                      [قلت : القائل بذلك هو الشيخ شهاب الدين أبو شامة] . وأما قوله : " إنه لم يتوجه عليه العامل " ليس بمسلم ، بل يتوجه عليه في الجملة ، والذي قاله النحاة مما لم يتوجه عليه العامل من حيث المعنى نحو : ما زاد إلا ما نقص ، وما نفع إلا ما ضر ، وهذا ليس من ذاك ، فكيف يعترض به على أبي شامة ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما النصب ففيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه مستثنى من " بأهلك " ، واستشكلوا عليه إشكالا من حيث المعنى : وهو أنه يلزم ألا يكون سرى بها ، لكن الفرض أنه سرى بها ، يدل عليه أنها التفتت ، ولو لم تكن معهم لما حسن [ ص: 368 ] الإخبار عنها بالالتفات ، فالالتفات يدل على كونها سرت معهم قطعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أجيب عنه بأنه لم يسر هو بها ، ولكن لما سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت ، ويؤيد أنه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد الله وسقط من مصحفه " فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك " ولم يذكر قوله ولا يلتفت منكم أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه مستثنى من " أحد " وإن كان الأحسن الرفع إلا أنه جاء كقراءة ابن عامر ما فعلوه إلا قليل منهم بالنصب مع تقدم النفي الصريح . وقد تقدم لك هناك تخريج آخر لا يمكن ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه مستثنى منقطع على ما قدمته عن أبي شامة . وقال الزمخشري : " وفي إخراجها مع أهله روايتان ، روي أنه أخرجها معهم ، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي ، فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجر فقتلها ، وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم ولم يسر بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : " وهذا وهم فاحش ، إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سرى بها أو لم يسر بها ، وهذا تكاذب في الإخبار ، يستحيل أن تكن القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التكاذب " . قلت : وحاش لله أن تترتب القراءتان على التكاذب ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيح ، الفرض أنه قد جاء في التفسير القولان ، ولا يلزم من ذلك التكاذب ، لأن من قال إنه سرى بها يعني أنها سرت هي بنفسها مصاحبة لهم في أوائل الأمر ، ثم أخذها العذاب فانقطع سراها ، ومن قال إنه لم يسر بها ، أي : [ ص: 369 ] لم يأمرها ولم يأخذها وأنه لم يدم سراها معهم بل انقطع فصح أن يقال : إنه سرى بها ولم يسر بها ، وقد أجاب الناس بهذا وهو حسن .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ أبو شامة : " ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين فكأنه قيل : فأسر بأهلك إلا امرأتك ، وكذا روى أبو عبيدة وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا ، وليس فيها ولا يلتفت منكم أحد فهذا دليل على استثنائها من السرى بهم ، ثم كأنه قال سبحانه : فإن خرجت معكم وتبعتكم غير أن تكون أنت سريت بها فانه أهلك عن الالتفات غيرها ، فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها ، فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم ، وقراءة الرفع دالة على المعنى المتأخر ، ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح " وهو كلام حسن شاهد لما ذكرته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : إنه مصيبها الضمير ضمير الشأن ، و " مصيبها " خبر مقدم ، و " ما أصابهم " مبتدأ مؤخر وهو موصول بمعنى الذي ، والجملة خبر إن ؛ لأن ضمير الشأن يفسر بجملة مصرح بجزأيها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأعرب الشيخ " مصيبها " مبتدأ ، و " ما أصابهم " الخبر ، وفيه نظر من حيث الصناعة : فإن الموصول معرفة ، فينبغي أن يكون المبتدأ و " مصيبها " نكرة لأنه عامل تقديرا فإضافته غير محضة ، ومن حيث المعنى : إن المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مصيبها من غير عكس ، ويجوز عند الكوفيين أن يكون " مصيبها " مبتدأ ، و " ما " الموصولة فاعل لأنهم يجيزون أن يفسر ضمير الشأن بمفرد عامل فيما بعده نحو : " إنه قائم أبواك " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 370 ] قوله : إن موعدهم ، أي : موعد هلاكهم . وقرأ عيسى بن عمر " الصبح " بضمتين فقيل : لغتان ، وقيل : بل هي إتباع ، وقد تقدم البحث في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية